مقتل أبي جهل لعنه الله

قال ابن هشام : وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز ويقول :


ما تنقم الحرب العوان مني بازل عامين حديث سني


لمثل هذا ولدتني أمي



قال ابن إسحاق : ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى ، وكان أول من لقي أبا جهل ، كما حدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك ، قالا : قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة : سمعت القوم ، وأبو جهل في مثل الحرجة ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه . فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني ، حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت ، إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها . قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها - قال ابن إسحاق : ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان . عبد الله بن مسعود يقطع رأس أبي جهل فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني : انظروا ، إن خفي عليكم في القتلى ، إلى أثر جرح في ركبته ، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به . قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق فعرفته ، فوضعت رجلي على عنقه - قال : وقد كان ضبث بي مرة بمكة ، فآذاني ولكزني - ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ قال : أعمد من رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : قلت : لله ولرسوله .

قال ابن إسحاق : وزعم رجال من بني مخزوم ، أن ابن مسعود كان يقول : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم . قال : ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هذا رأس عدو الله . فقال : آلله الذي لا إله غيره ؟ وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نعم ، والله الذي لا إله غيره . ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله فحمد الله . هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله .

وقد ثبت في " الصحيحين " ، من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إني لواقف يوم بدر في الصف ، فنظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما ، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال : يا عم ، أتعرف أبا جهل ؟ فقلت : نعم ، وما حاجتك إليه ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته ، لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس ، فقلت ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه . فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال : أيكما قتله ؟ قال كل منهما : أنا قتلته . قال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا . قال : فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال : كلاكما قتله . وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح . والآخر معاذ ابن عفراء .

وفي " الصحيحين " أيضا ، من حديث سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ قال ابن مسعود : أنا يا رسول الله ، فانطلق ، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال فأخذ بلحيته . قال : فقلت : أنت أبو جهل ؟ فقال : وهو فوق رجل قتلتموه . أو قال قتله قومه .

.

وقال أبو إسحاق الفزاري ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقلت : قد قتلت أبا جهل . فقال : آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فقلت : آلله الذي لا إله إلا هو . مرتين أو ثلاثا . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ثم قال : انطلق فأرنيه . فانطلقت فأريته فقال : هذا فرعون هذه الأمة . ورواه أبو داود ، والنسائي . من حديث أبي إسحاق السبيعي به .

وقال الواقدي : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال : رحم الله ابني عفراء ، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر . فقيل يا رسول الله ، ومن قتله معهما ؟ قال : الملائكة ، وابن مسعود قد شرك في قتله . رواه البيهقي .

صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين حين بلغه مقتل أبي جهل وقال البيهقي : أخبرنا الحاكم ، أخبرنا الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن أبي إسحاق قال : لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البشير يوم بدر بقتل أبي جهل ، استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو ، لقد رأيته قتيلا ؟ فحلف له ، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا .

ثم روى البيهقي ، من طريق أبي نعيم ، عن سلمة بن رجاء ، عن الشعثاء ، امرأة من بني أسد ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ، حين بشر بالفتح وحين جيء برأس أبي جهل

وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بشر بكر بن خلف ، حدثنا سلمة بن رجاء قال : حدثتني شعثاء ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض ، فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة .

التاسع عشر : اختلف في قاتل أبي جهل ، ففي صحيح البخاري في كتاب الخمس عن عبد الرحمن بن عوف أن معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل ، وفيه أيضا عن أنس أن ابن مسعود انطلق لينظر أبا جهل فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد -بفتح الموحدة والراء المهملة- أي مات ، أو صار في حال من مات ، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح ، وابنا عفراء هما معاذ ومعوذ ، بتشديد الواو .

وعند ابن إسحاق ، عن ابن عباس ، عن عمرو بن الجموح أنه ضرب أبا جهل ضربة أطنت قدمه ، ثم مر به معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق ، ثم مر بأبي جهل عبد الله بن مسعود وبه رمق فذكر ما سبق في القصة ، واحتز رأسه .

قال في الفتح بعد ذكر حديث ابن عوف : عفراء : والدة معوذ واسم أبيه الحارث . وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء ، وإنما أطلق عليه تغليبا ، ويحتمل أن تكون أم معاذ أيضا تسمى عفراء ، أو أنه كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه ، وما رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث ، لكنه يخالف حديث ابن عوف أنه رأى معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو شدا عليه جميعا حتى طرحاه ، وابن إسحاق يقول : إن ابن عفراء هو معوذ ، والذي في الصحيح معاذ وهما أخوان ، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه فتجتمع الأقوال كلها ، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق ، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول ، حتى لم يبق إلا مثل حركة المذبوح ، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه .

وأما ما ذكره ابن عتبة وأبو الأسود عن عروة : أن ابن مسعود أنه وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير ، متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه ، إلى آخر ما ذكر في القصة ، فيحمل على أن ذلك وقع بعد أن خاطبه كما تقدم . أول رأس حمل في الإسلام رأس عدو الله أبي جهل ، وحمل إليه رأس سفيان بن خالد الهذلي ، حمله عبد الله بن أنس كما سيأتي ، وحمل إليه أيضا رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي ، ورأس أبي عزة ، ومرحب اليهودي كما رواه الإمام أحمد ، ورأس العنسي الكذاب كما ذكره بعضهم ، وعصماء بنت مروان ، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة ، وأول مسلم حمل رأسه عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه . وأما ما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري قال : لم يحمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية