» فلما قرئ الكتاب قال قيصر : هذا كتاب لم أسمع بمثله بعد سليمان بن داود ، ثم أمرهم فخرجوا من عنده فبعث إلى الأسقف ، فدخلت عليه فسألني فأخبرته وكان صاحب أمرهم ، يصدرون عن قوله ورأيه ، فلما قرأ الكتاب قال الأسقف : هو والله الذي لا إله إلا هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم ، وموسى ، والذي ننتظره ، فقال قيصر : فما تأمرني ؟ قال الأسقف : أما أنا فمصدقه ومتبعه ، فقال قيصر لصاحب شرطته : قلت لي الشام ظهر البطن حتى يؤتى برجل من قدم هذا فأسأله عن شأنه ، قال أبو سفيان : فو الله ، إني وأصحابي كبعرة إذ هجم علينا ، فسأل ممن أنتم ؟
فأخبرناه ، فساقنا إليه جميعا ، وكان أبو سفيان وكفار قريش فأتوهم وهم بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ، ودعا بترجمانه ، فقال : أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل ؟
الذي يزعم- أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا أقربهم نسبا ، فقال : أدنوه مني ، وقربوا أصحابه ، فاجعلوهم خلف ظهره ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، قال أبو سفيان : فو الله ، لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول منكم
أحد قبله ؟ قلت : لا ، قال : فهل كان من آبائه ملك قلت : لا ، قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : فهل يغدر قلت : لا ، ونحن الآن معه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال : فما كلمني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة ، قال : فهل قاتلتموه قلت : نعم ، قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه ، قال : ماذا يأمركم ؟ قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف ، والصلة ، فقال لترجمانه : قل له : سألتك عن نسبه ، فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ، وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول قبله ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل تأسى بقول قيل قبله ، وسألتك : هل من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان من آبائه من ملك ، قلت : رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ، ويكذب على الله ، وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم ، وسألتك :
أيرتد أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب ، وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا يغدرون وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة ، فإن كان ما تقول حقا ، فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه ، ثم قال : الحق بشأنك ، قال : فقمت أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول : يا عباد الله ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم ، فما زلت موقنا أنه سيظهر ثم أخذ كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوضعه فوق رأسه ثم قبله وطواه في الديباج ، والحرير ، وجعله في سقط صاحب له برومية ، وكان نظيره في العلم ، وسار هرقل إلى حمص ولم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل بخروج النبي- صلى الله عليه وسلم- وأنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه ، فأمر بعظماء الروم ، فجمعوا له في دسكرة ملكه ، ثم أمر بها فأغلقت عليهم ، ثم اطلع عليهم من علية له ، وهو منهم خائف فقال : يا معشر الروم ، إنه جاءني كتاب أحمد وإنه والله النبي الذي ينتظر لا شك فيه الذي بشر به عيسى ، وإنه والله النبي الذي ننتظره ونجد ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته
وزمانه ، فأسلموا واتبعوه ، تسلم لكم آخرتكم ودنياكم فنخروا نخرة رجل واحد ، وحاصوا حيصة حمير الوحش ، وابتدروا أبواب الدسكرة فوجدوها مغلقة دونهم فلما رأى هرقل نفرتهم يئس من الإيمان وخافهم ، قال : ردوهم علي فردوهم عليه ، فقال : يا معشر الروم ، إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، وقد رأيت ما يسرني ، فوقعوا له سجدا ورضوا عنه ، فقال الأسقف قاضيه : أشهد أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذوه فما زالوا يضربونه ويعضونه حتى قتلوه ،
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك : إنه يبعث أمة وحده ،
ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا ، فقال دحية : ثم بعث إلي من الغد سرا فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاثة وعشرون صورة ، فإذا هي صور الأنبياء والمرسلين قال : انظر أين صاحبك من هؤلاء ، فرأيت صورة النبي- صلى الله عليه وسلم- كأنه ينطق ، قلت : هذا ، قال : صدقت ، فقال : صورة من هذا عن يمينه ؟ ، قلت :
رجل من قومه ، يقال له أبو بكر ، قال : فمن ذا الذي عن يساره ؟ قلت : رجل من قومه ، يقال له عمر ، قال : إنا نجد في الكتاب أن بصاحبيه هذين ، يتم الله هذا الدين ،
فلما قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبرته ، فقال : صدق بأبي بكر وعمر ، يتم الله هذا الدين بعدي .