وروى ابن إسحاق وابن سعد والبلاذري عن عبيد الله بن أبي مليكة عن عبيد بن عمير ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من الصلاة يوم صلى قاعدا عن يمين أبي بكر قال : وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد : يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله لا يمسك الناس علي بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن يا فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا صفية عمة محمد اعملا لها عند الله فإني لم أغن عنكما من الله شيئا ، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال أبو بكر : يا رسول الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب واليوم يوم بنت خارجة فأتها قال : نعم ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح .
وقال الواقدي ، عن أبي بكر بن أبي سبرة ، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة . وقال غيره : عشرين صلاة . فالله أعلم . ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها ، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ، ولسان حالهم يقول ، كما قال بعضهم :
وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية .
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام . قال : وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم ; لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما " قلت : وهذا من كلام الأشعري ، رحمه الله ، مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه ، وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الصلوات ، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة ، لا ينافي ما روي في " الصحيح " أن أبا بكر ائتم به عليه الصلاة والسلام ; لأن ذلك في صلاة أخرى ، كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة ، رحمهم الله عز وجل
فائدة : استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ، ومنهم البخاري ، بصلاته ، عليه الصلاة والسلام ، قاعدا ، وأبو بكر مقتديا به قائما ، والناس بأبي بكر ، على نسخ قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث المتفق عليه حين صلى ببعض أصحابه قاعدا ، وقد وقع عن فرس فجحش شقه فصلوا وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : " كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم ; يقومون على عظمائهم وهم جلوس . وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " قالوا : ثم إنه ، عليه الصلاة والسلام ، أمهم قاعدا ، وهم قيام في مرض الموت ، فدل على نسخ ما تقدم . والله أعلم .
وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة ، موضع ذكرها كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
وملخص ذلك أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم ، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم . ومن الناس من قال : بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر كما صرح به بعض الرواة كما تقدم ، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبادره بل يقتدي به ، فكأنه عليه الصلاة والسلام ، صار إمام الإمام ، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر ، وهو قائم ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام ، ولأنه يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحركات والسكنات والانتقالات . والله أعلم . ومن الناس من قال فرق بين أن يبتدئ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال ، وبين أن يبتدئ الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس للحديث المتقدم . والله أعلم . ومن الناس من قال : هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام والجلوس وإن كلا منهما سائغ جائز ; الجلوس لما تقدم والقيام للفعل المتأخر . والله أعلم .