فصل في علمه، وأنه أعلم الصحابة، وأذكاهم
قال النووي في «تهذيبه»، ومن خطه نقلت: (استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله - رضي الله عنه - في الحديث الثابت في «الصحيحين»: «والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله، لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... لقاتلتهم على منعه».
واستدل الشيخ أبو إسحاق بهذا وغيره في «طبقاته»: على أن
أبا بكر أعلم الصحابة ; لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكمة في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب، فرجعوا إليه.
وروينا عن ابن عمر أنه سئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: «أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعلم غيرهما».
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691555إن الله تبارك تعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله». فبكى أبو بكر وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا هذا كلام النووي .
وقال ابن كثير :
(كان الصديق - رضي الله عنه - أقرأ الصحابة - أي: أعلمهم بالقرآن - لأنه صلى الله عليه وسلم قدمه إماما للصلاة بالصحابة مع قوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=662588«يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله».
وأخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «
nindex.php?page=hadith&LINKID=665976لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ».
وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة، كما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو، ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى الوفاة؟ ! وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم.
وإنما لم يرو عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل، لقصر مدته، وسرعة وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو طالت مدته.. لكثر ذلك عنه جدا، ولم يترك الناقلون عنه حديثا إلا نقلوه عنه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحدهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته ; فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم.
وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: (كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم.. نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم.. قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم... جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي.. قضى به).
وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة.. نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء؟ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء.. قضى به، وإلا.. دعا رءوس المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر.. قضى به.
أعلم الناس بأنساب العرب
وكان الصديق - رضي الله عنه - مع ذلك أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش.
أخرج ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن شيخ من الأنصار قال:
(كان جبير بن مطعم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق وكان أبو بكر الصديق من أنسب العرب).
وكان الصديق مع ذلك غاية في علم تعبير الرؤيا، وقد كان يعبر الرؤيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
أعلم الناس بتعبير الرؤيا وأفصحهم وأخطبهم
وقد قال محمد بن سيرين - وهو المقدم في هذا العلم بالاتفاق -:
(كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم). أخرجه ابن سعد .
وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أؤول الرؤيا أبا بكر ». قال ابن كثير : غريب.
وكان من أفصح الناس وأخطبهم ; قال الزبير بن بكار : سمعت بعض أهل العلم يقول:
(خطباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -).
(وكان من أعلم الناس بالله وأخوفهم له).
ومن الدال على أنه أعلم الصحابة: حديث صلح الحديبية،
nindex.php?page=hadith&LINKID=105062حيث سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الصلح، وقال: (علام نعطي الدنية في ديننا؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه الصديق بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. أخرجه البخاري وغيره.
وكان مع ذلك أسد الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، أخرج تمام الرازي في «فوائده» وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ».
وأخرج الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل:
nindex.php?page=hadith&LINKID=942054أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يسرح معاذا إلى اليمن.. استشار ناسا من أصحابه فيهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وأسيد بن حضير ، فتكلم القوم كل إنسان برأيه، فقال: «ما ترى يا معاذ؟» فقلت: أرى ما قال أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر ».
. تعبيره للرؤيا
فيما ورد عنه من تعبير الرؤيا
عن سعيد بن المسيب قال:
رأت عائشة - رضي الله عنها - كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبي بكر وكان من أعبر الناس، فقال: (إن صدقت رؤياك.. ليدفنن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثا)، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة ; هذا خير أقمارك).
وعن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=103437رأيتني أردفت غنم سود، ثم أردفتها غنم بيض حتى ما ترى السود فيها». فقال أبو بكر : يا رسول الله ; أما الغنم السود: فإنها العرب يسلمون ويكثرون، والغنم البيض: الأعاجم يسلمون حتى لا ترى العرب فيهم من كثرتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك عبرها الملك سحرا».
وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين قال: ( كان أعبر هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ).
وعن ابن شهاب قال:
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، فقصها على أبي بكر، فقال: «رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف»، قال: يا رسول الله ; يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة، وأعيش بعدك سنتين ونصفا .
وأخرج عبد الرزاق في «مصنفه»، عن أبي قلابة: أن رجلا قال لأبي بكر الصديق : رأيت في النوم أني أبول دما، قال: (أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاستغفر الله ولا تعد). الصديق رضي الله عنه حافظ لكتاب الله
قال النووي في «تهذيبه»:
(الصديق رضي الله عنه أحد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله)، وذكر هذا أيضا جماعة منهم ابن كثير في «تفسيره».
وأما حديث أنس: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة).. فمراده من الأنصار، كما أوضحته في كتاب «الإتقان».
وعن الشعبي قال: (مات أبو بكر الصديق ولم يجمع القرآن كله).. فهو مدفوع، أو مأول على أن المراد: جمعه في المصحف على الترتيب الذي صنعه عثمان رضي الله عنه.
فصل فيما ورد عن الصديق من تفسير القرآن
أخرج أبو القاسم البغوي عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر عن آية؟ فقال: (أي أرض تسعني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله؟ !.)
وأخرج أبو عبيد عن إبراهيم التيمي قال:
سئل أبو بكر عن قوله تعالى: وفاكهة وأبا فقال:) أي سماء تظلني، أو أي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ !).
وأخرج البيهقي وغيره عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة؟ فقال: (إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا.. فمن الله، وإن يكن خطأ.. فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد)، فلما استخلف عمر قال: (إني لأستحي أن أرد شيئا قاله أبو بكر ).
وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن الأسود بن هلال، قال: قال أبو بكر لأصحابه: (ما تقولون في هاتين الآيتين:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ،
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قالوا: ثم استقاموا: فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، قال: لقد حملتموها على غير المحمل، ثم قال: قالوا ربنا الله ثم استقاموا: فلم يميلوا إلى إله غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك).
وأخرج ابن جرير عن عامر بن سعد البجلي، عن أبي بكر الصديق في قوله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26] قال: (النظر إلى وجه الله تعالى).
وأخرج ابن جرير عن أبي بكر في قوله تعالى:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا قال: (قد قالها الناس، فمن مات عليها.. فهو ممن استقام).