ليلة الهرير



فلما أمسى الناس في يومهم ذلك ، وهو اليوم الثالث وطعنوا في الليل ، اشتد القتال وصبر الفريقان ، وقامت فيها الحرب إلى الصباح لا ينطقون ، كلامهم الهرير ، فسميت ليلة الهرير . وقيل : إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريرا ، وأرسل سعد طليحة وعمرا ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ، ليقوموا عليها خشية أن يأتيه القوم منها . فلما أتياها قال طليحة : لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم . قال عمرو : بل نعبر أسفل . فافترقا ، وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ، ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون ، وطلبه الأعاجم فلم يدركوه .

وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع ، وخرج مسعود بن مالك الأسدي ، وعاصم بن عمرو ، وابن ذي البردين الهلالي ، وابن ذي السهمين ، وقيس بن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم ، فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف ، فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد ، وكان أول من زاحفهم القعقاع ، وقال سعد : اللهم اغفرها له وانصره ، فقد أذنت له إن لم يستأذني . ثم قال : أرى الأمر ما فيه هذا ، فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا ، وكبر واحدة فلحقهم أسد ، فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت النخع فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت بجيلة فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم حملت كندة فقال : اللهم اغفرها لهم وانصرهم . ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع ، وتقدم حنظلة بن الربيع ، وأمراء الأعشار ، وطليحة ، وغالب ، وحمال ، وأهل النجدات ، ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا ، وخالطوا القوم ، واستقبلوا الليل استقبالا بعدما صلوا العشاء ، وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح ، وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغا ، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط ، وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم ، وأقبل سعد على الدعاء ، فلما كان عند الصبح انتمى الناس ، فاستدل بذلك على أنهم الأعلون ، وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول :


نحن قتلنا معشرا وزائدا أربعة وخمسة وواحدا     نحسب فوق اللبد والأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا     الله ربي واحترزت عامدا



وقتلت كندة تركا الطبري ، وكان مقدما فيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية