فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية

لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قنسرين ، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب ، فقاتلهم خالد فيها قتالا شديدا ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، فأما من هناك من الروم فأبادهم ، وقتل أميرهم ميناس ، ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها ، فماتوا على دم واحد . وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا ، فقبل منهم خالد وكف عنهم ، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه ، فقال لهم خالد : إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا . فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حمص فصالحوهم على صلح حمص دخول هرقل القسطنطينية فعند ذلك دخل هرقل القسطنطينية ; وسببه : أن خالدا وعياضا أدربا إلى هرقل من الشام ، وأدرب عمرو بن مالك من الكوفة ، فخرج من ناحية قرقيسيا ، وأدرب ع?د الله بن المعتم من ناحية الموصل ، ثم رجعوا ، فعندها دخل هرقل القسطنطينية ، وكانت هذه أول مدربة في الإسلام سنة خمس عشرة ، وقيل : ست عشرة .

فلما بلغ عمر صنيع خالد قال : أمر خالد نفسه ، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال مني ! وقد كان عزله والمثنى بن حارثة وقال : إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما .

فأما المثنى فإنه رجع عن رأيه فيه لما قام بعد أبي عبيدة ، ورجع عن خالد بعد قنسرين . وأما هرقل فإنه خرج من الرهاء ; وكان أول من أنبح كلابها ونفر دجاجها من المسلمين زياد بن حنظلة - وكان من الصحابة - ، وسار هرقل فنزل بشمشاط ، ثم أدرب منها نحو القسطنطينية . فلما أراد المسير منها علا على نشز ثم التفت إلى الشام فقال : السلام عليك يا سورية ، سلام لا اجتماع بعده ، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا ، حتى يولد المولود المشئوم ، يا ليته لا يولد ! فما أحلى فعله وأمر فتنته على الروم ! . ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية ، واستقر بها ملكه ، وقد سأل رجلا ممن اتبعه كان قد أسر مع المسلمين ، فقال : أخبرني عن هؤلاء القوم . فقال : أخبرك كأنك تنظر إليهم ; هم فرسان بالنهار ، رهبان بالليل ، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه . فقال : لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين .

قلت : وقد حاصر المسلمون قسطنطينية في زمان بني أمية ، فلم يملكوها ولكن سيملكها المسلمون في آخر الزمان ، كما سنبينه في كتاب الملاحم ، وذلك قبل خروج الدجال بقليل على ما صحت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في " صحيح مسلم " وغيره من الأئمة ، ولله الحمد والمنة .

وقد حرم الله على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى آخر الدهر ، كما ثبت به الحديث في " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل . وقد وقع ما أخبر به ، صلوات الله وسلامه عليه ، كما رأيت ، وسيكون ما أخبر به جزما ، لا يعود ملك القياصرة إلى الشام أبدا ; لأن قيصر علم جنس عند العرب يطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم . فهذا لا يعود لهم أبدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية