فتح بيت المقدس وهو إيلياء
في هذه السنة
فتح بيت المقدس ، وقيل : سنة ست عشرة في ربيع الأول . على يدي عمر بن الخطاب .
وذكره أبو جعفر بن جرير في سنة خمس عشرة عن رواية سيف بن عمر ، وملخص ما ذكره ، هو وغيره ، أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق ، كتب إلى أهل إيلياء يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، أو يبذلون الجزية أو يؤذنون بحرب . فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه . فركب إليهم في جنوده ، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك ، فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ; ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم ، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ; ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم ، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان . وسار بالجيوش نحوهم ، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب ، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته ، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورءوس الأمراء كخالد بن الوليد ، ويزيد بن أبي سفيان ، فترجل أبو عبيدة وترجل عمر ، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر ، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة ، فكف أبو عبيدة ، فكف عمر . ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس ، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ، دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . ويقال : إنه لبى حين دخل بيت المقدس ، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود ، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد ، فقرأ في الأولى بسورة " ص " وسجد فيها والمسلمون معه ، وفي الثانية بسورة " بني إسرائيل " ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار ، وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه ، فقال : ضاهيت اليهودية . ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس ، وهو العمري اليوم ، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه ، ونقل المسلمون معه في ذلك . وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها ، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة ; لأنها قبلة اليهود ، حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة ، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة ، وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب ، فجعلوا يلقون على قبره القمامة ، فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة ، وانسحب الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك . وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء ، وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود ، قال لهم : إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد ، كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا . ثم أمروا بإزالتها ، فشرعوا في ذلك ، فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب . وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه " المستقصى في فضائل المسجد الأقصى " .
وذكر سيف في سياقه أن عمر رضي الله عنه ، ركب من المدينة على فرس ; ليسرع السير بعدما استخلف عليها علي بن أبي طالب ، فسار حتى قدم الجابية ، فنزل بها خطبة عمر بالجابية ومصالحة أهلها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة ، منها : أيها الناس ، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم ، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم ، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة ، فمن أراد لحب وجه الجنة فليلزم الجماعة ; فإن
الشيطان مع الواحد ، وهو مع الاثنين أبعد ، ولا يخلون أحدكم بامرأة ; فإن الشيطان ثالثهما ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن . وهي خطبة طويلة اختصرناها . ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس .
وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية ، فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية ، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان ، ثم أبو عبيدة ، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج ، فسار إليهم عمر ليحصبهم ، فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح ، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم ، فسكت عنهم واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل فإنهما موافقان الأرطبون بأجنادين ، فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة ، فسار إليهم المسلمون بالسلاح ، فقال عمر : إن هؤلاء قوم يستأمنون . فساروا نحوهم ، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه ، فأجابهم عمر ، رضي الله عنه ، إلى ما سألوا ، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة ، وضرب عليهم الجزية ، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير ، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وهو كاتب الكتاب ، وذلك في سنة خمس عشرة .
ثم كتب لأهل لد ومن هنالك من الناس كتابا آخر ، وضرب عليهم الجزية ، ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء . وفر الأرطبون إلى بلاد مصر ، فكان بها حتى فتحها عمرو بن العاص ، ثم فر إلى البحر ، فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين ، فظفر به رجل من قيس ، فقطع يد القيسي ، وقتله القيسي ، وقال في ذلك :
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها فإن فيها بحمد الله منتفعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها
فقد تركت بها أوصاله قطعا .
ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد ، أقبل عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة حتى قدما الجابية ، فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا ، فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها واعتنقهما عمر معا ، رضي الله عنهم .
قال سيف : ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية ، وقد توجى فرسه ، فأتوه ببرذون ، فركبه فجعل يهملج به ، فنزل عنه وضرب وجهه ، وقال : لا علم الله من علمك ، هذا من الخيلاء . ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده ، ففتحت إيلياء وأرضها على يديه ما خلا أجنادين فعلى يدي عمرو ، وقيسارية فعلى يدي معاوية . هذا سياق سيف بن عمر ، وقد خالفه غيره من أئمة السير ، فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.
القول بأن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة قال يزيد بن عبيدة : فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة ، وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية . .
وقال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم ، عن الوليد بن مسلم قال : ثم عاد في سنة سبع عشرة ، فرجع من سرع ، ثم قدم سنة ثماني عشرة ، فاجتمع إليه الأمراء ، وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر الأمصار ثم عاد إلى المدينة .
وقال يعقوب بن سفيان : ثم كان
فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة . وقال أبو معشر : ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة ثم كانت سرع في سنة سبع عشرة ، ثم كان
عام الرمادة في سنة ثماني عشرة . قال : وكان فيها
طاعون عمواس . يعني فتح البلدة المعروفة بعمواس ، فأما الطاعون المنسوب إليها ، فكان في سنة ثماني عشرة .
قال أبو مخنف : لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ، ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى :
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين [ الدخان : 25 - 28 ] . ثم أنشد قول النابغة : .
هما فتيا دهر يكر عليهما نهار وليل يلحقان التواليا
إذا ما هما مرا بحي بغبطة أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا
وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل دمشق ، وليس كذلك ، فإنه لم ينقل أحد أنه دخلها في شيء من قدماته الثلاث إلى الشام ; أما الأولى ، وهي هذه ، فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس ، كما ذكر سيف وغيره . والله أعلم .
وقال الواقدي : رواية أهل الشام بأن عمر دخل الشام مرتين أما رواية أهل الشام أن عمر دخل الشام مرتين ، ورجع الثالثة من سرع ، فليس بمعروف ، وإنما قدم مرة واحدة عام الجابية حين صالح أهل بيت المقدس سنة ست عشرة ، ورجع من سرع سنة سبع عشرة ، وهم يقولون : دخل في الثالثة دمشق وحمص ، وأنكر الواقدي ذلك .
قلت : ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه .
وقال الإمام أحمد : بسنده عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ، أن عمر بن الخطاب كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس . قال : قال ابن سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، سمعت عمر يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ قال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك . فقال عمر : ضاهيت اليهودية ، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس . وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه " المستخرج " . وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر ، ما رواه من الأحاديث المرفوعة ، وما روي عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه ، ولله الحمد والمنة .
وقد روى سيف بن عمر ، عن شيوخه ، عن سالم قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق ، فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، لا ها الله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء .
وعن أسلم مولى عمر ، عن عمر بن الخطاب ، أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر لبعض حاجته فبينما هو في البلد إذا هو ببطريق يأخذ بعنقه ، فذهب ينازعه فلم يقدر ، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل ، وقال له : حول هذا من ها هنا إلى ها هنا . وغلق عليه الباب وانصرف ، فلم يجئ إلى نصف النهار . قال : وجلست مفكرا ، ولم أفعل مما قال لي شيئا . فلما جاء قال : ما لك لم تفعل ؟ ولكمني في رأسي بيده ، قال : فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته ، وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب ، فجلست عنده من العشي ، فأشرف علي ، فنزل وأدخلني الدير فأطعمني وسقاني ، وأتحفني ، وجعل يحقق النظر في ، وسألني عن أمري ، فقلت : إني أضللت عن أصحابي . فقال : إنك لتنظر بعين خائف . وجعل يتوسمني ، ثم قال : لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم ، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه ، فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا ؟ فقلت : يا هذا ، لقد ذهبت غير مذهب . فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني ، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتانا ، فقال لي : اركبها ، فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها . ففعلت ما أمرني به ، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة ، فأمضاها له عمر ، واشترط عليه ضيافة من يمر به من المسلمين ، وأن يرشدهم إلى الطريق . رواه ابن عساكر وغيره . وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبد الله بن أسامة القرشي البلقاوي ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، فذكر حديثا طويلا عجيبا ، هذا بعضه . تواضع عمر في دخوله الشام وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : سنده عن أبي العالية الشامي قال : قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق تلوح صلعته للشمس ، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة ، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب ، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف ، هو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا ، هي حقيبته إذا ركب ، ووسادته إذا نزل ، وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه . فقال : ادعوا لي رأس القوم . فدعوا له الجلومس ، فقال : اغسلوا قميصي وخيطوه ، وأعيروني قميصا أو ثوبا ، فأتي بقميص كتان فقال : ما هذا ؟ قالوا : كتان . قال : وما الكتان ؟ فأخبروه ، فنزع قميصه فغسل ورقع ، وأتي به ، فنزع قميصهم ولبس قميصه . فقال له الجلومس : أنت ملك العرب ، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل . فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل ، فركبه فقال : احبسوا احبسوا ، ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا ، هاتوا جملي . فأتي بجمله فركبه .
وعن طارق بن شهاب قال : لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ، فنزل عن بعيره ونزع موقيه ، فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره ، فقال له أبو عبيدة : قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض ; صنعت كذا وكذا . قال : فصك في صدره ، وقال : أوه ، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة ! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس ، فأعزكم الله بالإسلام ، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله .