ولما وقع هذا الأمر العظيم الفظيع الشنيع أسقط في أيدي الناس ، فأعظموه جدا ، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج على ما صنعوا ، وأشبهوا من تقدمهم ممن قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز ، من الذين عبدوا العجل في قوله تعالى : ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين [ الأعراف : 149 ]

ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم ترحم على عثمان ، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال : تبا لهم . ثم تلا قوله تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ يس : 48 ، 49 ] . وبلغ عليا قتله فترحم عليه ، وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر الآية [ الحشر : 16 ] . ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له ، وترحم عليه ، وتلا في حق الذين قتلوه : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ الكهف : 103 ، 104 ] . ثم قال سعد : اللهم أندمهم ثم خذهم . وقد أقسم بعض السلف بالله أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا . رواه ابن جرير . وهكذا ينبغي أن يكون ؛ لوجوه منها ، دعوة سعد المستجابة ، كما ثبت في الحديث الصحيح . وقال بعضهم : ما مات أحد منهم حتى جن .

وقال الواقدي : حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، قال : الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي ، وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول : خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل ، حتى إذا كنا بالعرج سمعنا رجلا يغني تحت الليل :


ألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

ولما رجع الحجيج وجدوا عثمان ، رضي الله عنه ، قد قتل وبايع الناس علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل ، رجعن إلى مكة ، فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي . فصل ( كلام الصحابة في مقتل عثمان رضي الله عنه )

روى الحافظ بن عساكر ، بسنده عن حذيفة . قال : أول الفتن قتل عثمان ، وآخر الفتن خروج الدجال ، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره .

وقد ذكر البخاري في " صحيحه " . قال عن أبي عبد الله النجراني أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه ، كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ، ففتح عينيه فسألهما فقالا : خير . فقال : إن شيئا تسرانه دوني ما هو بخير . قال : قتل الرجل . يعني عثمان . قال : فاسترجع ، ثم قال : اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل ، فإن كان خيرا فهو لمن حضره ، وأنا منه بريء ، وإن كان شرا فهو لمن حضره ، وأنا منه بريء ، اليوم نفرت القلوب بأنفارها ، الحمد لله الذي سبق بي الفتن ، قادتها وعلوجها ، الحظي من تردى بعيره ، فشبع شحما وقل عمله .

وعن أبي موسى الأشعري قال : لو كان قتل عثمان هدى ، لاحتلبت به الأمة لبنا ، ولكنه كان ضلالا ، فاحتلبت به الأمة دما . وهذا منقطع .

وعن زهدم الجرمي قال : خطب ابن عباس فقال : لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء . وقد روي من غير هذا الوجه عنه .

وعن أبي جعفر الأنصاري قال : لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد وعليه عمامة سوداء فقلت له : قتل عثمان . فقال : تبا لهم آخر الدهر . وفي رواية : خيبة لهم .

وعن ابن أبي ليلى قال : سمعت عليا وهو بباب المسجد ، أو عند أحجار الزيت رافعا صوته يقول : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان . وعن الحسن قال : قتل عثمان وعلي غائب في أرض له ، فلما بلغه قال : اللهم إني لم أرض ولم أمالئ .

وعن أبي العالية أن عليا دخل على عثمان ، فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به .

وعن ابن عباس قال : قال علي يوم قتل عثمان : والله ما قتلت ، ولا أمرت ، ولكني غلبت . وعن ابن عباس قال : قال علي : إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ، ما قتلت عثمان ، ولا أمرت بقتله ، ولقد نهيتهم فعصوني . وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه .

وعن قيس بن عباد قال : سمعت عليا يوم الجمل يقول : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان ، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة فقلت : والله إني لأستحيي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة . وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد . فانصرفوا ، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت : اللهم إني لمشفق مما أقدم عليه ، ثم جاءت عزمة فبايعت ، فلما قالوا : أمير المؤمنين ، فكأنما صدع قلبي وانسكبت بعبرة .

وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي ، أنه تبرأ من دم عثمان ، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ، ولا أمر بقتله ، ولا مالأ ، ولا رضي به ، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه . ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث . ولله الحمد والمنة . وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين [ الحجر : 47 ] . وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال : كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا . وفي رواية أنه قال : كان عثمان ، رضي الله عنه ، خيرنا ، وأوصلنا للرحم ، وأشدنا حياء ، وأحسننا طهورا ، وأتقانا للرب ، عز وجل .

وعن عمير بن زوذي أبي كثير قال : خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته ، فنزل فقال : إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة ; أحمر وأبيض وأسود ، ومعهم في أجمة أسد ، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران ، فقال للأسود والأحمر : إن هذا الأبيض قد فضحنا في هذه الأجمة فخليا عنه حتى آكله . فخليا عنه فأكله ، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر ، فقال للأحمر : إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة ، وإن لوني على لونك ، فلو خليت عنه أكلته . فخلى عنه الأحمر فأكله ، ثم قال للأحمر : إني آكلك . فقال : دعني حتى أصيح ثلاث صيحات . فقال : دونك . فقال : ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض . ثلاثا ، ثم قال علي : وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان . قالها ثلاثا .

وروى ابن عساكر ، بسنده عن سعيد بن المسيب قال : كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال ، فتحمل وقرها وتقول : اللهم بدل ، اللهم غير . فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان ، رضي الله عنه :


قلتم بدل فقد بدلكم     سنة حرى وحربا كاللهب
ما نقمتم من ثياب خلفة     وعبيد وإماء وذهب

قال : وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا ، وكان في من جانب عثمان - فلما قتل قال : والله ما أردنا قتله ، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل ، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ، ولا أضحك حتى ألقاك .

وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، قال : لقد رأيتني وإن عمر موثقي وأخته على الإسلام ، ولو ارفض أحد فيما صنعتم بابن عفان ، لكان حقيقا . وهكذا رواه البخاري في " صحيحه " .

وعن عبد الرحمن بن جبير قال : سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر : قتل عثمان بن عفان ، فلم ينتطح فيه عنزان . فقال ابن سلام : أجل إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة ، ولكن تنتطح فيه الرجال بالسلاح ، والله ليقتلن به أقوام ، إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد .

وقال ابن سلام : يحكم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل .

وعن أبي الأسود يقول : سمعت أبا بكرة يقول : لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أشرك في دم عثمان .

وعن أبي مريم رضيع الجارود قال : كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال : أيها الناس ، رأيت البارحة في منامي عجبا ; رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه ، فجاء رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حتى قام عند قائمة من قوائم العرش ، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر ، ثم جاء عثمان فكان نبذة ، فقال : رب سل عبادك فيم قتلوني ؟ فانبعث من السماء ميزابان من دم في الأرض . قال : فقيل لعلي : ألا ترى ما يحدث به الحسن ؟ فقال : حدث بما رأى .

وعن زيد بن صوحان أنه قال يوم قتل عثمان : نفرت القلوب منافرها ، والذي نفسي بيده ، لا تتآلف إلى يوم القيامة .

وعن عون بن عبد الله بن عتبة : قال : قالت عائشة : غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف ! استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقلب المصفى قتلتموه .

وعن مسروق قال : قالت عائشة حين قتل عثمان : تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه . وفي رواية : ثم قربتموه فذبحتموه كما يذبح الكبش . فقال لها مسروق : هذا عملك ، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يخرجوا إليه . فقالت : لا والذي آمن به المؤمنون ، وكفر به الكافرون ، ما كتبت إليهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا . قال الأعمش : فكانوا يرون أنه كتب على لسانها . وهذا إسناد صحيح إليها . وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج ، قبحهم الله ، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق ، يحرضونهم على قتال عثمان ، كما قدمنا بيانه . ولله الحمد والمنة .

وعن أنس قال : قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان : رحمه الله ، أما إنهم لن يحتلبوا بعده إلا دما .

كلام أئمة التابعين في مقتل عثمان رضي الله عنه

وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له ، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله : أما مررتم ببلاد ثمود ؟ قالوا : نعم . قال : أشهد أنكم مثلهم ، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته . وعن الحسن قال : لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبنا ، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما . وقال أبو جعفر الباقر : كان قتل عثمان على غير وجه الحق

التالي السابق


الخدمات العلمية