فصل في
ذكر شيء من سيرته وهي دالة على فضيلته ، رضي الله عنه قال ابن مسعود : لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل . وفي رواية : بايعوا خيرهم ولم يألوا .
وقال البخاري في " التاريخ " : بسنده عن الحسن يقول : أدركت عثمان على ما نقموا عليه ، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا ، يقال لهم : يا معشر المسلمين ، اغدوا على أعطياتكم . فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على أرزاقكم . فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على السمن والعسل ، الأعطيات جارية ، والأرزاق دارة ، والعدو متقى ، وذات البين حسن ، والخير كثير ، وما من مؤمن يخاف مؤمنا ، من لقيه فهو أخوه من كان ; ألفته ونصيحته ومودته ، قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة ، فإذا كانت فاصبروا . قال الحسن : فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير ، قالوا : لا والله ما نصابرها . فوالله ما ردوا وما سلموا ، والأخرى كان السيف مغمدا عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم ، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس هذا ، وايم الله إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة .
وقال غير واحد ، عن الحسن البصري ، قال : سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح وقتل الكلاب .
وروى سيف بن عمر أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ، ورمى بعضهم بالجلاهقات ، فوكل عثمان رجلا من بني ليث يتتبع ذلك ، فيقص الحمام ويكسر الجلاهقات ، وهي قسي البندق .
وقال محمد بن سعد : أنبأنا القعنبي ، وخالد بن مخلد ، ثنا محمد بن هلال ، عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالا ، ففقدها يوما ، فقيل له : إنها قد ولدت هذه الليلة غلاما . قالت : فأرسل إلي بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية ، وقال : هذا عطاء ابنك وكسوته ، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة .
وعن ابن داب ، قال : قال ابن سعيد بن يربوع بن عنكثة المخزومي : انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد ، والمسجد يبنى ، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم ، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة ، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله ، ففتح عينيه ، فقال : من أنت يا غلام ؟ فأخبرته ، فنادى غلاما نائما ، قريبا منه ، فلم يجبه ، فقال لي : ادعه . فدعوته ، فأمره بشيء وقال لي : اقعد . قال : فذهب الغلام فجاء بحلة ، وجاء بألف درهم ، ونزع ثوبي وألبسني الحلة ، وجعل الألف درهم فيها ، فرجعت إلى أبي فأخبرته ، فقال : يا بني من فعل هذا بك ؟ فقلت : لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه . قال : ذاك أمير المؤمنين عثمان بن عفان .
وعن السائب بن يزيد أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد الله ؟ قال : إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان ؟ قال : نعم . قال : قلت لأغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني المقام - فلما قمت إذا رجل يزحمني مقنعا ، قال : فالتفت فإذا بعثمان فتأخرت عنه ، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن حتى إذا قلت : هذا هو أذان الفجر . أوتر بركعة لم يصل غيرها ، ثم انطلق . وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود ، أيام الحج . وقد كان هذا من دأبه ، رضي الله عنه . ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى :
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [ الزمر : 9 ] قال : هو عثمان بن عفان . وقال ابن عباس في قوله تعالى :
هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم [ النحل : 76 ] . قال : هو عثمان بن عفان .
وعن الحسن كان يقول : قال عثمان : لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا ، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف ، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه .
وقال أنس ومحمد بن سيرين : قالت امرأة عثمان يوم الدار : اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة . وقال غير واحد : إنه ، رضي الله عنه ، كان لا يوقظ أحدا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه ، إلا أن يجده يقظان ، وكان يصوم الدهر ، وكان يعاتب فيقال له : لو أيقظت بعض الخدم ؟ فيقول : لا ، الليل لهم يستريحون فيه . وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه ، وهو في بيت مغلق عليه ، ولا يرفع صلبه جيدا من شدة حيائه ، رضي الله عنه . وقال الحسن البصري : دخلت المسجد ، فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه ، فأتاه سقاءان يختصمان إليه ، فقضى بينهما . وقال الشعبي : لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة ، وقال : أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد ، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول : قد كان لك في غزوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبلغك ، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك . وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة . فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس ، وكان أحب إليهم من عمر .
وقيل : وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها ، وحج بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصنع عمر . وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، وأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما .
قيل : وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان ، فقال : كان يتيما في حجر عثمان ، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملا كلهم ، فسأل عثمان العمل ، فقال : يا بني لو كنت رضا لاستعملتك . قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق . قال : اذهب حيث شئت ، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه ، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة . قال : وعمار بن ياسر ؟ قال : كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين أهل عمار وأهل عباس ، وكانا تقاذفا .
قيل : سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان . قال : الغضب والطمع ، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع ، وكانت له دالة فلزمه حق ، فأخذه عثمان من ظهره ، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمما بعد أن كان محمدا .
قيل : واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك ، فقال : أيفخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه وأرخص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ورضي به .
قيل : وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات ، فبلغ عثمان ، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضربا ، فعزره وأخبر الناس خبره ، وقرأ عليهم كتاب عثمان ، وفيه : إنه قد جد بكم فجدوا وإياكم والهزل . فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه ، وكان سيره إلى دنباوند ، فقال في ذلك للوليد :
لعمري لئن طردتني ما إلى التي طمعت بها من سقطتي لسبيل رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي
إلى الحق دهرا ، غال ذلك غول فإن اغترابي في البلاد وجفوتي
وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليلة
عليك بدنباوندكم لطويل
قال : وأما ضابئ بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم ، فانتزعه الأنصاريون منه قهرا ، فهجاهم وقال :
تجشم دوني وفد قرحان خطة تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا طاعمين كأنما حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم فإن عقوق الأمهات كبير
فاستعدوا عليه عثمان ، فعزره وحبسه ، فما زال في السجن حتى مات فيه .
وقال في الفتك معتذرا إلى أصحابه :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابئ ألا من لخصم لم يجد من يجادله
فلذلك صار ابنه عمير سبئيا . قال : وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابئ فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان ، فأما عمير فإنه نكل عنه ، وأما كميل فإنه جسر وثاوره ، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال : أوجعتني يا أمير المؤمنين ! فقال : أولست بفاتك ؟ قال : لا والله . فقال عثمان : فاستقد مني ، وقال : دونك . فعفا عنه ، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما ، وسيرد ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى - .
وقال حسان بن زيد : سمعت عليا وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته : يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان ، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى : (
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) . وقال أبو حميد الساعدي - وهو بدري وكان مجانبا لعثمان - فلما قتل عثمان قال : والله ما أردنا قتله ، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك .