من توفي في هذه السنة من الأكابر

أرقم بن أبي الأرقم أرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، أبو عبد الله :

وأمه أميمة بنت الحارث من خزاعة ، وخاله نافع بن الحارث بن خزاعة عامل عمر بن الخطاب على مكة .

عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم ، قال :

حدثني جدي عثمان بن الأرقم ، قال : أنا ابن سبعة في الإسلام ، أسلم أبي سابع سبعة ، وكانت داره بمكة على الصفا ، وهي الدار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون فيها في أول الإسلام ، وفيها دعي الناس إلى الإسلام ، وأسلم فيها خلق كثير ، وقال ليلة الاثنين فيها : "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : عمر بن الخطاب ، أو عمرو بن هشام " . فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين ، فدعيت دار الأرقم دار الإسلام ، وتصدق بها الأرقم على ولده ، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره .

"بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاذى الصفا ، إنها محرمة بمكانها من الحرم ، لا تباع ولا تورث ، شهد هشام بن العاص ، وفلان مولى هشام بن العاص " . فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر .

وعن يحيى بن عمران أن ابن عثمان بن الأرقم قال :

إني لأعلم اليوم الذي وقعت في نفس أبي جعفر ، إنه ليسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها ، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا ، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ، كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ولم يخرج معه ، فتعلق عليه أبو جعفر بذلك ، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد ، ثم بعث رجلا من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب ، وكتب معه إلى عامل المدينة أن يفعل ما يأمره به ، فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان الحبس - وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة ، وقد ضجر بالحديد والحبس - فقال له : هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم ؟ فإن أمير المؤمنين يريدها ، وعسى إن بعته إياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك قال : إنها صدقة ، ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء إخوتي وغيرهم ، فقال : إنما عليك نفسك ، أعطنا حقك وبرئت . فأشهد له بحقه ، وكتب عليه كتاب شراء على حساب سبعة عشر ألف دينار ، ثم تتبع إخوته ففتنهم بكثرة المال فباعوه ، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها ، ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون ، فبنتها وعرفت بها ، ثم صارت لجعفر بن موسى أمير المؤمنين ، [ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني ، ثم اشترى ] عامتها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر .

قال علماء السير : شهد الأرقم بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله ، ومات الأرقم بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبع وثمانين سنة ، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص .

سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي :

كان خطيبا بليغا يضرب المثل بفصاحته ، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل ، فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه ، فمن قوله :


لقد علم الحي اليمانيون أنني إذا قلت : أما بعد ، أني خطيبها



فقال له معاوية : اخطب ، فقال : انظروا لي عصا تقيم من أودي ، قالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين ؟ قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه ، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قارب العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه ، فقال معاوية : الصلاة ، قال : الصلاة أمامك ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : أنت أخطب الجن والإنس ، قال : كذلك أنت .

فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس :

كان صبيا يوم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء كنا غلمانا نحتطب ، فأرسلنا إلى أهلنا وقال : قولوا قد جاء صاحبكم الذي تنتظرون ، فخرجنا إلى أهلنا فأخبرناهم ، فأقبل القوم .

وشهد فضالة أحدا والخندق وما بعدها ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، ثم خرج إلى الشام وصار قاضيا بها في خلافة معاوية .

قثم بن العباس بن عبد المطلب قثم بن العباس بن عبد المطلب :

كان [يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر به ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلعب ، فحمله خلفه . واستعمله علي بن أبي طالب على المدينة ، وخرج مع سعيد بن عثمان في زمن معاوية ، فاستشهد بسمرقند .

كعب بن عمرو بن عباد ، أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد ، أبو اليسر :

شهد العقبة وبدرا وهو ابن عشرين سنة ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان قصيرا دحداحا ، أبطن ، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر .

وتوفي بالمدينة في هذه السنة .

سعد بن أبي وقاص

واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، أبو إسحاق القرشي الزهري ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، أسلم قديما . قالوا : وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة .

وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال : ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام . وهو الذي كوف الكوفة ونفى عنها الأعاجم ، وكان مجاب الدعوة ، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار ، وكذلك في أيام عمر ، وقد استنابه على الكوفة ، وهو الذي فتح المدائن وكانت بين يديه وقعة جلولاء وكان سيدا مطاعا ، وعزله عمر عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك ، وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى ، ثم ولاه عثمان الكوفة بعدها ، ثم عزله عنها .

وعن عمرو بن دينار قال : شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين .

وثبت في " صحيح مسلم " أن ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال : الناس يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا ؟ فقال : يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي " .

قال ابن عساكر : ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه ، فقال له : يا عم ، هاهنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر . فقال : أريد من مائة ألف سيفا واحدا ; إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع .

وعن زكريا بن عمرو ، أن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية ، فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر . وقال غيره : فبايعه : وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه .

وقال أحمد : بسنده عن سعيد بن المسيب ، عن سعد قال : جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد . وفي بعض الروايات : " فداك أبي وأمي " . وفي رواية : فقال : " ارم وأنت الغلام الحزور " . قال سعيد : وكان سعد جيد الرمي .

وعن جابر بن سمرة قال : أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد ، رضي الله عنه .

وعن عبد الله بن شداد ، سمعت عليا يقول : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك ، وإني سمعته يقول له يوم أحد : " ارم سعد ، فداك أبي وأمي " . وعن أيوب ، أنه سمع عائشة بنت سعد تقول : أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالأبوين .

وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال : لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد ، فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، حتى كان بعد ، فظننت أنه ملك .

وعن سعد بن أبي وقاص قال : لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد .

وعن سعد قال : رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإنى لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة ; سرورا بما ظفره الله ، عز وجل .

وعن عبد الله بن مسعود قال : اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم أجئ أنا وعمار بشيء .

وعن ابن مسعود قال : لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل .

وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول : قالت عائشة : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقا ذات ليلة ، ثم قال : " ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة " . قالت : إذ سمعنا صوت السلاح ، فقال : " من هذا ؟ " قال : أنا سعد بن أبي وقاص ، أنا أحرسك يا رسول الله . قالت : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه .

وعن أنس بن مالك قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فاطلع سعد بن أبي وقاص حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . قال : فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الأول ، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع على ترتيبه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إني غاضبت أبي ، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني ، فعلت . قال أنس : فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة ، حتى إذا كان مع الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا ، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله ، وكبره حتى يقوم مع الفجر ، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ، ثم يصبح مفطرا . قال عبد الله بن عمرو : فرمقته ثلاث ليال وأيامهن ، لا يزيد على ذلك ، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت : إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل ثلاث مرات في ثلاثة مجالس : " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة " . فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث ، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما هو إلا الذي رأيت . قال : فلما رأيت ذلك انصرفت عنه ، فدعاني حين وليت ، فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي سوءا لأحد من المسلمين ، ولا أنوي له شرا ولا أقوله . قال : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا أطيق .

وثبت في " صحيح مسلم " بسنده عن سعد ، في قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] . نزلت في ستة ، أنا وابن مسعود منهم . وفي رواية : أنزل الله في وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما [ العنكبوت : 8 ] . وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما ، فقال لها : تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، إن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي . فنزلت هذه الآية .

وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة ، فثبت في الصحيح ، من حديث سعيد بن زيد ، وجاء من حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قصة حراء ، ذكر سعد بن أبي وقاص منهم .

وعن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله " . رواه الترمذي .

وعن عامر بن سعد ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به ، فقلت : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : " لا " . قلت : فالثلث ؟ قال : " الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك " - وفي رواية : حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك - قلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ فقال : " إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله ، إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . ثم قال : " اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة " . يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة . وعن عائشة بنت سعد عن أبيها ، فذكر نحوه ، وفيه : قال : فوضع يده على جبهته ، فمسح وجهه وصدره وبطنه ، وقال : " اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته " . قال سعد : فما زلت يخيل إلي أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة .

وعن بكير بن الأشج قال : سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : " وعسى أن تبقى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . فقال : أمر سعد على العراق ، فقتل قوما على الردة فضرهم ، واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب ، فتابوا فانتفعوا به .

وعن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص ، فأكثر البكاء ، وقال : يا ليتني مت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، أعندي تتمنى الموت ! " فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال : " يا سعد ، إن كنت للجنة خلقت ، فما طال عمرك أو حسن من عملك ، فهو خير لك " .

وعن مطعم بن المقدام وغيره ، أن سعدا قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجيب دعوتي . فقال : " إن الله لا يستجيب دعوة عبد حتى يطيب مطعمه " . فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يطيب طعمتي . فدعا له . قالوا : فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه ، فيردها من حيث أخذت .

وقد كان كذلك مجاب الدعوة ، لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له. شكوى أهل الكوفة من سعد بن أبي وقاص فمن أشهر ذلك ما ثبت في " الصحيحين " من طريق عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شيء حتى قالوا : لا يحسن يصلي . فقال سعد : أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أطيل الأوليين ، وأحذف في الأخريين . فقال : ذاك الظن بك يا أبا إسحاق . وعن سعيد بن المسيب قال : خرجت جارية لسعد يقال لها : زبراء . وعليها قميص جديد ، فكشفتها الريح ، فشد عليها عمر بالدرة ، وجاء سعد ليمنعه ، فتناوله عمر بالدرة ، فذهب سعد يدعو على عمر ، فناوله الدرة وقال : اقتص . فعفا عن عمر .

وروى أيضا أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام ، فهم سعد أن يدعو عليه ، فخاف ابن مسعود ، وجعل يشتد في الهرب .

وقال سفيان بن عيينة : لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس ، وقد أصابته جراح ، فلم يشهد يوم الفتح ، يعني فتح القادسية ، فقال رجل من بجيلة :


ألم تر أن الله أظهر دينه     وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة     ونسوة سعد ليس فيهن أيم

فقال سعد : اللهم اكفنا يده ولسانه . فجاءه سهم غرب ، فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا .

وعن عامر بن سعد ، أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل ، فأدخل رأسه من بين اثنين ، فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير ، فنهاه عن ذلك ، فلم ينته ، فقال : أدعو عليك . فقال الرجل : تتهددني كأنك نبي ! فانصرف سعد ، فدخل دار آل فلان ، فتوضأ ، وصلى ركعتين ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله اليوم آية وعبرة . قال : فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس ، فافترق الناس ، فأخذته بين قوائمها ، فلم تزل تتخبطه حتى مات . قال : فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون : استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق . وعن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف ، أن امرأة كانت تطلع على سعد ، فنهاها فلم تنته ، فاطلعت يوما وهو يتوضأ ، فقال : شاه وجهك . فعاد وجهها في قفاها .

وقال كثير النواء عن عبد الله بن مليل قال : دخل سعد على معاوية فقال له : ما لك لم تقاتل معنا ؟ فقال : إني مرت بي ريح مظلمة فقلت : أخ أخ . فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ، ثم عرفت الطريق فسرت . فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ، ولكن قال الله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] . فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية . فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " . فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال : فلان وفلان وأم سلمة . فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلت عليا . وفي رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية ، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت . وفي إسناد هذا ضعف . والله أعلم .



وقال محمد بن سيرين : طاف سعد على تسع جوار في ليلة ، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم ، فاستحيت أن توقظه .

ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب : يا بني ، إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة ، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال .

وعن مصعب بن سعد قال : كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت ، فقال : ما يبكيك يا بني ؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة ، إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله ، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم ، فإذا نفدت قال : ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له .

وقال الزهري : لما حضرت سعدا الوفاة دعا بخلق جبة فقال : كفنوني فيها ، فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر ، وإنما كنت أخبئها لهذا اليوم .

وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة ، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ، فصلى عليه مروان ، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات ، ودفن بالبقيع ، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الأكثرون ، وقد جاوز الثمانين ، على الصحيح .

قال علي بن المديني : وهو آخر العشرة وفاة . وقال غيره : كان آخر المهاجرين وفاة . رضي الله عنه وعنهم أجمعين .

وقال الهيثم بن عدي : سنة خمسين .

وقال أبو معشر وأبو نعيم وقعنب بن المحرر : توفي سعد سنة ثمان وخمسين .

وقال قعنب : وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأم سلمة . والصحيح الأول ; خمس وخمسين .

قالوا : وكان سعد قصيرا غليظا شثن الأصابع أفطس ، أشعر الجسد ، يخضب بالسواد ، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية