من توفي في هذه السنة من الأكابر سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص
سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ، يكنى أبا عثمان ، ويكنى أبا سعيد :
جده أبو أحيحة ، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين . وكان سعيد كريما ، استسقى يوما من دار بالمدينة ، ثم عرض صاحب الدار الدار للبيع ، فقال : لم يبيعها ؟ قالوا : عليه دين أربعة آلاف دينار ، فقال : إن له لحرمة لسقيه إيانا . فركب إليه ومعه غريمه ، فقال للغريم : هي لك علي ، وقال لصاحب الدار : استمتع بدارك .
وكان الناس يتعشون عنده ، وكان فيهم رجل من القراء افتقر ، فقالت له زوجته : قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له حالك فلعله أن ينيلنا شيئا ، فقال : ويحك ، لا تخلقي وجهي ، قالت : فاذكر له على كل حال . فتصرم الناس ليلة عنه ، وثبت الرجل ، فقال : سعيد : أظن جلوسك لحاجة ، فسكت ، فقال لغلمانه : تنحوا ، ثم قال له : رحمك الله ، إنما أنا وأنت فاذكر حاجتك ، فسكت ، فأطفأ السراج ثم قال : رحمك الله ، لست ترى وجهي فاذكر حاجتك ، فقال : أصلح الله الأمير ، لقد أصابتنا حاجة فأحببت ذكرها لك ، فقال : إذا أصبحت فالق فلانا وكيلي . فلما أصبح الرجل لقي الوكيل ، فقال له : إن الأمير قد أمر لك بشيء فائت بمن يحمله معك ، فقال : ما عندي من يحمل ، ثم انصرف إلى زوجته فأخبرها الخبر وجعل يلومها ويقول : ما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر وقفيز بز وذهب ماء وجهي ، لو كانت دراهم أعطانيها ، فقالت له امرأته : يا هذا ، قد بلغ بنا الأمر ما ترى فمهما أعطاك فإنه يقوتنا ، فأتى الوكيل ، فقال : أين تكون ؟ أخبرت الأمير أنه ليس عندك من يحمل فأمرني أن أوجه معك من يحمل معك ما أمر به ، ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم وقال : امضوا معه ، فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة منها فأخرج دراهم ودفعها إلى السودان وقال : انصرفوا ، قالوا : إلى أين ، نحن عبيدك ، إنه ما حمل مملوك للأمير قط هدية إلى أحد فرجع المملوك إلى ملكه . قال : فصلحت حال الرجل .
ولما احتضر سعيد قال لبنيه : لا يفقدن مني إخواني غير وجهي ، فاصنعوا لهم ما كنت أصنع ، وأجروا عليهم ما كنت أجري ، فاكفوهم مئونة الطلب ، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد ، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجة أعظم عليكم منة منكم عليه بما تعطونه .
وعن خالد بن سعيد ، عن أبيه ،
عن ابن عمر ، قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد فقالت : إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب ، فقال : "أعطيه هذا الغلام " : يعني سعيد بن العاص ، وهو واقف . ومات سعيد بن العاص في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة ، ودفن بالبقيع ، وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق وأمره أن يدفنه بالبقيع ، وقال : إن قليلا لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع ، ففعلوا ، وأمر ابنه عمرا إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه ويبيعه منزله بالعرصة ، وكان منزلا قد أنحله سعيدا ، وغرس فيه النخل وزرع وبنى فيه قصرا معجبا ، وقال لابنه : إن منزلي هذا ليس في العقد ، إنما هو منزل برة ، فبعه من معاوية واقض عني ديني ومواعيدي ، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي .
فلما دفنه عمرو ووقف الناس بالبقيع فعزوه ، ثم ركب رواحله إلى معاوية ، فقدم عليه فنعاه له ، فاسترجع وتوجع لموته ، ثم قال : هل ترك من دين ؟ قال : نعم ، قال : فكم ؟ قال : ثلاثمائة ألف درهم ، قال : هي علي ، قال : قد أبى ذلك وأمرني أن أقضي عنه من أمواله ، أبيع ما استباع منها ، قال : فاعرضني ما شئت ، قال : أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته ، منزله في العرصة ، فقال له معاوية : هيهات لا تبيعون هذا المنزل ، انظر غيره ، قال : فما نصنع ، نحب تعجيل قضاء دينه ، قال : قد أخذته بثلاثمائة ألف درهم ، قال : اجعلها بالواقية - يريدون درهم فارس ، الدرهم زنة مثقال الذهب - قال : قد فعلت ، قال : فاحملها إلى المدينة ، قال : قد فعلت ، فحملها له ، فقدم عمرو بن سعيد فجعلها في ديونه وحاسبهم بما بين الدراهم الواقية - وهي البعلية - وبين الدراهم الجوار - وهي تنقص في العشرة ثلاثة ، كل سبعة بالبعلية عشرة بالجوار - حتى أتاه فتى من قريش فذكر حقا له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض نفقاته ، وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد ، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى - وهو صعلوك من قريش - هذا المال ، فأرسل إلى مولى أبيه الصك فلما قرأه المولى بكى ثم قال : نعم أعرف هذا الصك ، وهو حق ، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه ، معه هذه القطعة الأديم : اكتب ، فكتبت بإملائه هذا الحق ، فقال عمرو للفتى : وما سبب مالك هذا ؟ قال : رأيته يمشي وحده فقمت مشيت حتى بلغ باب منزله ، ثم وقفت ، فقال : هل من حاجة ؟ فقلت : لا ، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك ، فقال :
وصلتك رحم يا ابن أخي ، ابغني قطعة أديم ، فأتيت خرازا عند باب داره فأخذت منه هذه القطعة ، فدعا مولاه هذا فقال : اكتب ، فكتب عن أبيك هذا الكتاب وكتب فيه شهادته على نفسه ثم دفعه إلي وقال : يا ابن أخي ، ليس عندنا اليوم شيء ، فخذ هذا الكتاب فإذا أتانا شيء فائتنا به إن شاء الله ، فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء . قال عمرو : لا جرم ، لا تأخذها إلا وافية ، فدفعها إليه .
وروى الزبير من طريق آخر : أن معاوية اشترى العرصة بألف ألف درهم ، وكان دين سعيد ثلاثة آلاف درهم ، فاشترى معاوية العرصة من ابن سعيد بألف ألف ، والنخل بألف ألف ، والمزارع بألف ألف .
وذكر ابن عساكر أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص بهدايا وأموال وكتاب ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من أمية بنت جرير بن عبد الله البجلي ، فلما وصلت الهدايا والأموال والكتاب قرأه ، ثم فرق الهدايا في جلسائه ، ثم كتب إليه كتابا لطيفا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى
كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 ، 7 ] . والسلام .
وروينا أن سعيدا خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة ، التي كانت تحت عمر بن الخطاب ، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك - وفي رواية : إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن - فهيأت دارها ونصبت سريرا وتواعدوا للكتاب ، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه ، فبعث إليها بمائة ألف - وفي رواية : بمائتي ألف - مهرا . واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه ، فقال : إني أكره أن أحرج ابني فاطمة . فترك التزويج ، وأطلق جميع ذلك المال لها .
وقال ابن معين وعبد الأعلى بن حماد : سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة ، فقال الخادم : خمسمائة درهم أو دينار ؟ فقال : إنما أمرتك بخمسمائة درهم ، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير ، فادفع إليه خمسمائة دينار . فلما قبضها الأعرابي جلس يبكي ، فقال له : مالك ؟ ألم تقبض نوالك ؟ قال : بلى والله ، ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك .
وقال عبد الحميد بن جعفر : جاء رجل في حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة ، فقيل له : عليك بالحسن بن علي ، أو عبد الله بن جعفر ، أو سعيد بن العاص ، أو عبد الله بن عباس . فانطلق إلى المسجد ، فإذا سعيد داخل إليه ، فقال : من هذا ؟ فقيل : سعيد بن العاص . فقصده فذكر له ما أقدمه ، فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل ، فقال للأعرابي : ائت بمن يحمل معك ؟ فقال : رحمك الله ، إنما سألتك مالا لا تمرا . فقال : أعرف ، ائت بمن يحمل معك ؟ فأعطاه أربعين ألفا ، فأخذها الأعرابي ، وانصرف ولم يسأل غيره .
وقال سعيد بن العاص لابنه : يا بني ، أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة ، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه ، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه ، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته .
وقال سعيد : لجليسي علي ثلاث ; إذا دنا رحبت به ، وإذا جلس أوسعت له ، وإذا حدث أقبلت عليه .
وقال أيضا : يا بني ، لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنيء فتهون عليه . وفي رواية : فيجترئ عليك .
وخطب يوما فقال : من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به ، إنما يتركه لأحد رجلين ; إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت ، والمصلح لا يقل عليه شيء ، وإما مفسد فلا يبقى له شيء . فقال معاوية : جمع أبو عثمان طرف الكلام .
وروى الأصمعي ، عن حكيم بن قيس قال : قال سعيد بن العاص : موطنان لا أستحيي من رفقي فيهما والتأني عندهما ، مخاطبتي جاهلا أو سفيها ، وعند مسألتي حاجة لنفسي .
ودخلت عليه امرأة من العابدات ، وهو أمير الكوفة ، فأكرمها وأحسن إليها ، فقالت : لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام ، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه . وقد كان له عشرة من الولد ذكورا وإناثا ، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص أخت مروان بن الحكم . وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعائشة ، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الأشدق ، ويحيى بن سعيد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، وغيرهم ، وليس له في " المسند " ولا في الكتب الستة شيء . وقد كان حسن السيرة ، جيد السريرة ، وكان كثيرا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل ، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير ، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من ذوي الحاجات في المسجد .
قال ابن عساكر : وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم ، وحمام نعيم ، بنواحي الديماس ، ثم رجع إلى المدينة ، فأقام بها إلى أن مات ، وكان كريما جوادا ممدحا .
ثم أورد شيئا من حديثه فعن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن سعيد بن العاص قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية " . شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام ، أبو يعلى
شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام ، أبو يعلى الأنصاري الخزرجي
صحابي جليل ، وهو ابن أخي حسان بن ثابت .
وحكى ابن منده ، عن موسى بن عقبة أنه قال : شهد بدرا . قال ابن منده : وهو وهم . وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم ، كان إذا أخذ مضجعه يعلق على فراشه ، ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ، ويقول : اللهم إن خوف النار قد أقلقني . ثم يقوم إلى صلاته .
قال عبادة بن الصامت : كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم .
نزل شداد فلسطين وبيت المقدس ، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة ، وقيل : مات سنة أربع وستين . وقيل : سنة إحدى وأربعين . فالله أعلم . عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، يكنى أبا عبد الله :
أمه أم رومان بنت عامر ، وهو أخو عائشة لأبويها وكان أسن أولاد أبي بكر ، لم يزل على دين قومه وشهد بدرا مع المشركين ودعا إلى المبارزة فقام أبو بكر الصديق ليبارزه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "متعنا بنفسك " ، ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية ، وهو الذي قال لمروان لما دعي إلى بيعة يزيد : إنما يريدون أن يجعلوها كسروية أو هرقلية ، فقال مروان : أيها الناس ، هذا الذي
قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ، فصاحت به عائشة : ألعبد الرحمن يقول هذا ، كذبت والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الرجل الذي أنزل فيه لسميته ، ولكني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه .
وهاجر إلى المدينة ، وأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أربعين وسقا ، وروى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان عبد الرحمن يتجر في الجاهلية إلى الشام بماله ومال قريش فرأى ليلى بنت الجودي فهويها ، فلما فتح خالد الشام زمن عمر صارت إليه فازداد بها شغفا .
عن محمد بن الضحاك الحراني ، عن أبيه :
أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قدم الشام في تجارة ، فرأى هناك امرأة يقال لها ابنة الجودي على طنفسة لها ولائد ، فأعجبته فقال لها :
أتذكر ليلى والسماوة دونها وما لابنة الجودي ليلى وما ليا وأنى تعاطى قلبه حارثية
تؤمن بصرى أو يحل الجوابيا وأني بلاقيها بلى ولعلها
إن الناس حجوا قابلا أن تلاقيا
فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال لصاحب الجيش : إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فظفر بها فدفعها إلى عبد الرحمن فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى شكونه إلى عائشة ، فعاتبته على ذلك ، فقال : والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان ، فأصابها وجع سقط له فوها فجفاها حتى شكته إلى عائشة ، فقالت له عائشة : يا عبد الرحمن ، لقد أحببت ليلى فأفرطت وأبغضتها فأفرطت ، فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها .
قال الزبير : وعن هشام بن عروة ، عن أبيه :
أن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق ، وكانت ابنة ملك دمشق .
ومما يروى لعبد الرحمن في ليلى بنت الجودي هذا :
يا ابنة الجودي قلبي [كئيب ] مستهام عندها ما يؤوب
جاورت أخوالها حي عك فلعلك من فؤادي نصيب
ولقد لاموا فقلت ذروني إن من يلحون فيها الحبيب
غصن بان ما خلا الخصر منها ثم ما أسفل ذاك كثيب
قالت عائشة : كنت أعاتبه في كثرة محبته لها ، ثم صرت أعاتبه في إساءته إليها ، حتى ردها إلى أهلها .
وعن ابن أبي مليكة ، قال :
مات عبد الرحمن بالحبشي فحمل حتى دفن بمكة ، فقدمت عائشة من المدينة فأتت قبره فوقفت عليه فتمثلت بهذين البيتين :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت : أما والله لو شهدتك ما زرت قبرك ، ولو شهدتك ما حملت من حبشي ميتا ولدفنت مكانك .
وعن عبد الله ] بن أبي مليكة : أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي في منزل له فحملناه على رقابنا ستة أميال إلى مكة ، وعائشة غائبة ، فقدمت بعد ذلك فقالت : أروني قبر أخي ، فصلت عليه .
وعن يحيى بن سعيد ، قال : توفي عبد الرحمن في نومة نامها فأعيت عنه عائشة زمانا .
.
وفي
هذه السنة توفي عميرة بن يثربي قاضي البصرة ، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة .
عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو محمد الهاشمي
عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي
ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة . وأمهما أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية . وكان عبيد الله كريما جميلا وسيما ، يشبه أباه في الجمال . روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا ثم يقول :
" من سبق إلي فله كذا " . فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم .
وقد استنابه علي بن أبي طالب في أيام خلافته على اليمن ، وحج بالناس في سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين ، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن شجرة الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية ، ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي ، فأقام للناس الحج عامئذ ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطاة ، فقتل له ولدين ، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها . وكان يقدم هو وأخوه عبد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما ، ويوسعهم عبيد الله كرما .
وقد روي أنه نزل في مسير له ، مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب ، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله ، ورأى حسنه وشكله ، فقال لامرأته : ويحك ! ماذا عندك لضيفنا هذا ؟ فقالت : ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها . فقال : إنه لا بد من ذبحها . فقالت : أتقتل ابنتك ؟ فقال : وإن . فأخذ الشفرة والشاة ، وجعل يذبحها ويسلخها ، وهو يقول مرتجزا :
يا جارتي لا توقظي البنيه إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه
ثم هيأها طعاما ، فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما ، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة ، فلما أراد الارتحال قال لمولاه : ويلك ! ماذا معك من المال ؟ فقال : معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك . فقال : ادفعها إلى الأعرابي . فقال : سبحان الله ، تعطيه خمسمائة دينار ، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم ؟ ! فقال : ويحك ! والله لهو أسخى منا وأجود ; لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك ، وجاد هو علينا بجميع ما يملك ، وآثرنا على مهجة نفسه وولده . فبلغ ذلك معاوية فقال : لله در عبيد الله ! من أي بيضة خرج ؟ ! ومن أي شيء درج ؟ !
قال خليفة بن خياط : توفي سنة ثمان وخمسين . وقال غيره : توفي في أيام يزيد بن معاوية . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : توفي في سنة سبع وثمانين . وكانت وفاته بالمدينة ، وقيل : باليمن . وله حديث واحد .
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وممن توفي في هذه السنة
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق
زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أزواجه إليه ، المبرأة من فوق سبع سماوات ، رضي الله عنها ، وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، تكنى عائشة بأم عبد الله ، قيل : كناها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ; بابن أختها عبد الله بن الزبير . وقيل : إنها أسقطت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطا ، فسماه عبد الله .
ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها ، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها ، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها ، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة ، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير ، مرتين أو ثلاثا ، فيقول : هذه زوجتك . قال :
" فأكشف عنك فإذا هي أنت " . فأقول : " إن يكن هذا من عند الله يمضه " . فخطبها من أبيها فقال : يا رسول الله ، أوتحل لك ؟ قال : " نعم " . قال : أولست أخاك ؟ قال : " بلى ، في الإسلام ، وهي لي حلال " فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحظيت عنده . وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين ، وقيل : بسنة ونصف . وقيل : بثلاث سنين . وكان عمرها إذ ذاك ست سنين ، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها . ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها ، فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الأزمان . تكفير من قذف عائشة بعد براءتها وقد أجمع العلماء على
تكفير من قذفها بعد براءتها ، واختلفوا في
بقية أمهات المؤمنين ، هل يكفر من قذفهن أم لا ؟ على قولين ، وأصحهما أنه يكفر ; لأن المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى إنما غضب لها ، لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي وغيرها منهن سواء .
ومن خصائصها ، رضي الله عنها ، أنها كان لها في القسم يومان ; يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه مات في يومها وفي بيتها ، وبين سحرها ونحرها ، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته من الدنيا ، وأول ساعة من الآخرة ، ودفن في بيتها .
وعن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إنه ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة " . . وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة ; أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة .
ومن خصائصها أنها
أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق ; قال الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم جميع النساء ، لكان علم عائشة أفضل . وقال عطاء بن أبي رباح كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأيا في العامة . وقال عروة : ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة . ولم ترو امرأة ولا رجل ، غير أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها ، رضي الله عنها .
وقال أبو موسى الأشعري : ما أشكل علينا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة ، إلا وجدنا عندها منه علما . رواه الترمذي .
وقال أبو الضحى عن مسروق : رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض .
فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث :
" خذوا شطر دينكم عن الحميراء " . فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال : لا أصل له .
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها ; عمرة بنت عبد الرحمن ، وحفصة بنت سيرين ، وعائشة بنت طلحة ، وقد تفردت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بمسائل من بين الصحابة لم توجد إلا عندها ، وانفردت باختيارات أيضا ، وردت أخبارا بخلافها بنوع من التأويل . وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة . وقال الشعبي : كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال : حدثتني الصديقة بنت الصديق ، حبيبة حبيب الله ، المبرأة من فوق سبع سماوات .
وثبت في " صحيح البخاري " من حديث أبي عثمان النهدي ، عن عمرو بن العاص قال :
قلت : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قلت : ومن الرجال ؟ قال : " أبوها " .
وفي " صحيح البخاري " أيضا ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . تفضيل عائشة على خديجة وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى
تفضيل عائشة على خديجة ، بهذا الحديث ، فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن .
ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري : وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك ، فقال : " اللهم هالة " . قالت عائشة : فغرت ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها ؟ هكذا رواه البخاري . فأما ما يروى فيه من الزيادة : " ما أبدلني الله خيرا منها " . فليس يصح سندها . وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة ، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وعن ابن شهاب ، قال أبو سلمة : إن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما :
" يا عائش ، هذا جبريل يقرئك السلام " . فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى .
وثبت في " صحيح البخاري "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512544أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، فاجتمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة ، وقلن لها : قولي له يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان . فقالت أم سلمة : فلما دخل علي قلت له ذلك ، فأعرض عني . ثم قلن لها ذلك ، فقالت له ، فأعرض عنها ، ثم لما دار إليها قالت له ، فقال : " يا أم سلمة ، لا تؤذيني في عائشة ، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها " . وذكر أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه ، فقالت : إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة . فقال : " يا بنية ، ألا تحبين من أحب ؟ " قالت : قلت : بلى . قال : " فأحبي هذه " . ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة ، فتكلمت زينب ، ونالت من عائشة ، فانتصرت عائشة منها ، وكلمتها حتى أفحمتها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عائشة ، ويقول : " إنها ابنة أبي بكر " . وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستنفرهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل ، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له : اسكت مقبوحا منبوحا ، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة ، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها .
وعن ذكوان حاجب عائشة ، أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة ، فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقلت : هذا ابن عباس يستأذن . فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال : هذا عبد الله بن عباس يستأذن . وهي تموت ، فقالت : دعني من ابن عباس . فقال : يا أمتاه ، إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك . فقالت : ائذن له إن شئت . قال : فأدخلته ، فلما جلس قال : أبشري . فقالت : بماذا ؟ فقال : ما بينك وبين أن تلقي محمدا صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد ، كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا ، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصبح في المنزل ، وأصبح الناس وليس معهم ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فكان ذلك في سببك وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة ، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات ، جاء بها الروح الأمين ، فأصبح ليس لله مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار . فقالت : دعني منك يا ابن عباس ، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا . والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا . وقد
كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين ، وقيل : قبله بسنة . وقيل : بعده بسنة . والمشهور في رمضان منه ، وقيل : في شوال . والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان ، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا ، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر ، ونزل في قبرها خمسة ، وهم ; عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام من أختها أسماء بنت أبي بكر والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة ; لأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة ، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين . فالله أعلم . عبد الله بن عامر ( في هذه السنة
مات عقبة بن عامر ) الجهني ، وله صحبة ، وشهد صفين مع معاوية .