وهذه
ترجمة معاوية ، رضي الله عنه ، وذكر شيء من أيامه ، ودولته ، وما ورد في مناقبه وفضائله
هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي ، أبو عبد الرحمن ، خال المؤمنين ، وكاتب وحي رسول رب العالمين . وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
أسلم معاوية عام الفتح ، وروي عنه أنه قال : أسلمت يوم القضية ، ولكن كتمت إسلامي من أبي ، ثم علم بذلك فقال لي : هذا أخوك يزيد ، وهو خير منك على دين قومه . فقلت له : لم آل نفسي جهدا . قال معاوية : ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به ، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي ، فجئته فرحب بي ، وكتبت بين يديه .
قال الواقدي : وشهد معه حنينا ، وأعطاه مائة من الإبل ، وأربعين أوقية من ذهب ، وزنها له بلال .
وشهد اليمامة ، وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة الكذاب ، حكاه ابن عساكر . وقد يكون له شرك في قتله ، وإنما الذي طعنه وحشي ، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف .
وكان أبوه من سادات قريش في الجاهلية ، وتفرد فيهم بالسؤدد بعد يوم بدر ، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه ، وكان له مواقف شريفة ، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده .
وصحب معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب الوحي بين يديه مع الكتاب ، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في " الصحيحين " ، وغيرهما من " السنن " و " المسانيد " ، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين .
صفات معاوية بن أبي سفيان قال أبو بكر بن أبي الدنيا : كان معاوية طويلا أبيض جميلا ، إذا ضحك انقلبت شفته العليا ، وكان يخضب . فعن أبي عبد رب قال : رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب .
وقال غيره : كان أبيض طويلا ، أجلح أبيض الرأس واللحية ، يخضبهما بالحناء والكتم ، وقد أصابته لقوة في آخر عمره ، فكان يستر وجهه ، ويقول : رحم الله عبدا دعا لي بالعافية ، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي . وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس ، كريما عادلا شهما .
وقال الشافعي : قال أبو هريرة : رأيت هند بمكة كأن وجهها فلقة قمر ، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس ، ومعها صبي يلعب ، فمر رجل ، فنظر إليه فقال : إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه . فقالت هند : إن لم يسد إلا قومه فأماته الله . وهو معاوية بن أبي سفيان .
وعن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال : نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام ، فقال لهند : إن ابني هذا لعظيم الرأس ، وإنه لخليق أن يسود قومه . فقالت هند : قومه فقط ؟ ! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة . وكانت هند تحمله وهو صغير ، وتقول :
إن بني معرق كريم محبب في أهله حليم ليس بفحاش ولا لئيم
ولا بطخرور ولا سئوم صخر بني فهر به زعيم
لا يخلف الظن ولا يخيم
قال : فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام ، خرج إليه معاوية ، فقال أبو سفيان لهند : كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني ؟ فقالت : إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني .
تولية معاوية الشام فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة ، وجاء البريد إلى عمر بموته ، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد ، ثم عزى أبا سفيان في ابنه يزيد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، من وليت مكانه ؟ قال : أخاه معاوية . قال : وصلتك رحم يا أمير المؤمنين . وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه : والله يا بني ، إنه قل أن تلد حرة مثلك ، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر ، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت . وقال له أبوه : يا بني ، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا ، فرفعهم سبقهم ، وقصر بنا تأخرنا ، فصاروا قادة ، وصرنا أتباعا ، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم ، فإنك تجري إلى أمد فنافس فيه ، فإن بلغته أورثته عقبك .
فلم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان ، وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرس ، وسكنها المسلمون قريبا من ستين سنة في أيامه ومن بعده ، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها ، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان ، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية ، لا على يديه ولا على يدي علي ، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخسأه وأذله ، وقهر جنده ودحاهم ، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة ، وطمع فيه ، فكتب إليه معاوية : والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت . فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف ، وبعث يطلب الهدنة .
ثم كان من أمر
التحكيم ما كان ، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم ، فانعقدت الكلمة على معاوية ، واجتمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا ، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو قائم ، وكلمة الله عالية ، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو .
وعن ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512560قال أبو سفيان : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهن . قال : " نعم " . قال : تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين . قال : " نعم " . قال : ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك . قال : " نعم " . وذكر الثالثة ، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان . واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة ، فقال : " إن ذلك لا يحل لي " . معاوية كاتب وحي رسول الله والمقصود منه أن معاوية كان من جملة الكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي .
وعن ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512561كنت ألعب مع الغلمان ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فقلت : ما جاء إلا إلي . فاختبأت على باب ، فجاءني فحطأني حطأة ثم قال : " اذهب فادع لي معاوية " . وكان يكتب الوحي . قال : فذهبت فدعوته له ، فقيل : إنه يأكل . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنه يأكل . فقال : " اذهب فادعه " . فأتيته الثانية فقيل : إنه يأكل . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال في الثالثة : " لا أشبع الله بطنه " . قال : فما شبع بعدها .
وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه . أما في الدنيا فإنه لما صار في الشام أميرا ، كان يأكل في اليوم سبع مرات ، يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ، ويقول : والله ما أشبع ، وإنما أعيى . وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك .
وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه هو والبخاري وغيرهما ، من غير وجه عن جماعة من الصحابة ،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إنما أنا بشر ، فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه ، وليس لذلك أهلا ، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة " . فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية ، ولم يورد له غير ذلك .
وعن ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512562أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أقرئ معاوية السلام ، واستوص به خيرا ; فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ، ونعم الأمين .
وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512564لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم دق الباب داق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " انظروا من هذا " . قالوا : معاوية . قال : " ائذنوا له " . فدخل وعلى أذنه قلم لم يخط به ، فقال : " ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ؟ " قال : قلم أعددته لله ولرسوله . فقال : " جزاك الله عن نبيك خيرا ، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله ، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله ، كيف بك لو قمصك الله قميصا ؟ " . يعني الخلافة . فقامت أم حبيبة ، فجلست بين يديه وقالت : يا رسول الله ، وإن الله مقمصه قميصا ؟ ! قال : " نعم ، ولكن فيه هنات وهنات وهنات " . فقالت : يا رسول الله ، فادع الله له . فقال : " اللهم اهده بالهدى ، وجنبه الردى ، واغفر له في الآخرة والأولى " . وعن العرباض بن سارية السلمي قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى السحور في شهر رمضان : " هلم إلى الغداء المبارك " . ثم سمعته يقول : " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب ، وقه العذاب " . وعن أبي إدريس الخولاني قال : لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام ، وولى معاوية ، قال الناس : عزل عميرا وولى معاوية . فقال عمير : لا تذكروا معاوية إلا بخير ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" اللهم اهد به " . تفرد به الترمذي ، وقال : غريب
فضل معاوية بن أبي سفيان وأصح ما روي في
فضل معاوية حديث أبي حمزة ، عن ابن عباس ،
أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم . أخرجه مسلم في " صحيحه " . وعن ابن أبي مليكة قال : أوتر معاوية بعد العشاء بركعة ، وعنده مولى لابن عباس ، فأتى ابن عباس ، فقال : دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن أبي مليكة قال : قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ ما أوتر إلا بواحدة ! قال : أصاب ، إنه فقيه .
وعن معاوية قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512572إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما ، ولقد نهى عنهما . يعني الركعتين بعد العصر .
وعن عروة ، أن عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512573جاءت هند بنت عتبة فقالت : يا رسول الله ، ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك . فقال : " وأيضا والذي نفسي بيده " . فقالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ قال : " لا ، بالمعروف " . فالمدحة في قوله : " وأيضا والذي نفسي بيده " . وهو أنه كان يود أن هند وأهلها وكل كافر يذلوا في حال كفرهم ، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا ، فأعزهم الله يعني أهل خبائها .
وعن أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد قال : سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة ، فتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها - وكان أبو هريرة قد اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512574 " يا معاوية ، إن وليت أمرا فاتق الله واعدل " . قال معاوية : فما زلت أظن أني سأبتلى بعمل ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت . تفرد به أحمد . وعن عوف بن مالك الأشجعي قال : بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذ مسجد يصلى فيها - إذ انتبهت من نومي ، فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي ، فوثبت إلى سلاحي ، فقال الأسد : مه ، إنما أرسل? إليك برسالة لتبلغها . قلت : ومن أرسلك ؟ قال : الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام ، وتعلمه أنه من أهل الجنة . فقلت له : ومن معاوية ؟ قال : معاوية بن أبي سفيان . وقال بعضهم : لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها : إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه . فقالت : أو مثل معاوية يجعل خلفا من أحد ؟ ! فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ، ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء . وقال آخرون : ذكر معاوية عند عمر ، فقال : دعوا فتى قريش وابن سيدها ، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا ، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه .
وعن عبد العزيز بن بحر ، عن شيخ له قال : لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم ، فلما دنا من عمر قال له : أنت صاحب الموكب العظيم ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال : مع ما بلغك من ذلك . قال : ولم تفعل هذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة ، فيجب أن يظهر من عز السلطان ما يرهبهم به ، فإن أمرتني فعلت ، وإن نهيتني انتهيت . فقال له عمر : يا معاوية ، ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس ، لئن كان ما قلت حقا ، إنه لرأي أريب ، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديب . قال : فمرني يا أمير المؤمنين . قال : لا آمرك ولا أنهاك . فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه ! فقال عمر : لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه .
وعن أسلم مولى عمر قال : قدم علينا معاوية ، وهو أبيض أو أبض الناس وأجملهم ، فخرج إلى الحج مع عمر ، فكان عمر ينظر إليه فيعجب له ، ثم يضع أصبعه على متنه ، ثم يرفعها عن مثل الشراك ، فيقول : بخ بخ ، نحن إذا خير الناس ; أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة . فقال معاوية : يا أمير المؤمنين ، سأحدثك ; إنا بأرض الحمامات والريف . فقال عمر : سأحدثك ; ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك ، وذوو الحاجات وراء الباب . قال : فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها ، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب ، فقال : يعمد أحدكم فيخرج حاجا تفلا ، حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما ! فقال معاوية : إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي أو قومي . والله لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام ، والله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه . ثم نزع معاوية ثوبيه ، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما .
وعن أبي عبد الرحمن المدني قال : كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال : هذا كسرى العرب .
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي ، عن جده قال : دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء ، فنظر إليها الصحابة ، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة ، فجعل يضربه بها ، وجعل معاوية يقول : يا أمير المؤمنين ، الله الله في . فرجع عمر إلى مجلسه ، فقال له القوم : لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومك مثله ؟ ! فقال : والله ما رأيت إلا خيرا ، وما بلغني إلا خير ، ولكني رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه .
بعض من مرويات معاوية بن أبي سفيان روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وستون حديثا.
روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر وابن الزبير، وأبو الدرداء، وجرير البجلي، والنعمان بن بشير، وغيرهم.
ومن التابعين: ابن المسيب، وحميد بن عبد الرحمن وغيرهما. وعن أبا مريم الأزدي قال : دخلت على معاوية فقال : ما أنعمنا بك أبا فلان ؟ - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت : حديث سمعته أخبرك به ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من ولاه الله - عز وجل - شيئا من أمر المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره " . قال : فجعل رجلا على حوائج الناس . وعن أبي مجلز قال : خرج معاوية على الناس ، فقاموا له فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " .
وعن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم . أو : كدت أن تفسدهم " . قال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها . تفرد به أبو داود . يعني أنه كان جيد السيرة ، حسن التجاوز ، جميل العفو ، كثير الستر ، رحمه الله تعالى .
وثبت في " الصحيحين " من حديث الزهري ، بسنده عن معاوية أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم والله يعطي ، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون " . وفي رواية :
" وهم على ذلك " . فتوحات معاوية بن أبي سفيان وقال الليث بن سعد
فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب . وقال غيره : وفتح قبرس سنة خمس . وقيل : سنة سبع . وقيل : ثمان وعشرين . في أيام عثمان . قالوا : وكان عام غزوة المضيق - يعني مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين الأمير على الناس يومئذ معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنه ، وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام ، وقد استقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء ، ما كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان ، على سبيل الاجتهاد والرأي ، فجرى بينهما قتال عظيم ، كما قدمنا ، وكان
الحق والصواب مع علي ، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا ، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين ; أهل العراق وأهل الشام .
كما ثبت في الحديث " الصحيح " : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512578تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق " . فكانت المارقة الخوارج ، وقتلهم علي وأصحابه ، ثم قتل علي ، فاستقل معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين ، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين ; مرة في الصيف ، ومرة في الشتاء ، ويأمر رجلا من قومه فيحج بالناس .
وحج بالناس معاوية سنة خمسين ، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين ، وفيها أو في التي بعدها أغزاه بلاد الروم ، فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية ، وقد ثبت في " الصحيح " : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512579أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم " . وقد تقدم هذا كله .
وعن الأعمش ، عن أبي صالح قال : كان الحادي يحدو بعثمان فيقول :
إن الأمير بعده علي وفي الزبير خلف مرضي
فقال كعب : بل هو صاحب البغلة الشهباء . يعني معاوية . فأتاه معاوية فقال : يا أبا إسحاق ، تقول هذا ، وهاهنا علي والزبير وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أنت صاحبها . وعن عامر الشعبي ، أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام ، وجمع الجيوش لذلك - وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته ; لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار ، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك . وقد أكثرت القول في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله . في كلام طويل ، فقرأه معاوية على الناس ، وقام جرير فخطب الناس ، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة ، وحذره من المخالفة والمعاندة ، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس ، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف . فقال له معاوية : انتظر حتى آخذ رأي أهل الشام . فلما كان بعد ذلك أمر معاوية مناديا ، فنادى في الناس : الصلاة جامعة . فلما اجتمع الناس صعد المنبر ، فخطب فقال : الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا ، والشرائع للإيمان برهانا ، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده ، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها ، ورضيها لهم ; لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها ، والقوام بأمره ، الذابين عن دينه وحرماته ، ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما ، وفي أعلام الخير عظاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين ، والله نستعين على ما تشعث من أمور المسلمين ، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة ، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما ، ويخيفون آمننا ، ويريدون هراقة دمائنا ، وإخافة سبيلنا ، وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقابا ، ولا نهتك لهم حجابا ، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى ، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا ، فالله نستعين عليهم ، أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم ، وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط ، وأني ولي عثمان وابن عمه ، قال الله تعالى في كتابه :
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ الإسراء : 33 ] . وقد علمتم أنه قتل مظلوما ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان . فقال أهل الشام بأجمعهم : بل نطلب بدمه . فأجابوه إلى ذلك وبايعوه ، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم ، أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك . فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى ، أفزعه ذلك ، وعجب منه . وقال معاوية لجرير : إن ولاني على الشام ومصر بايعته على ألا يكون لأحد بعده علي بيعة . فقال : اكتب إلى علي بما شئت ، وأنا أكتب معك . فلما بلغ عليا الكتاب قال : هذه خديعة ، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك
وما كنت متخذ المضلين عضدا . ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه ، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي ، وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر ، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره ، فركب إليه ، فاجتمعا على حرب علي .
وقد قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر ، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه :
معاوي إن الشام شامك فاعتصم بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالقبائل والقنا ولا تك مخشوش الذراعين وانيا
فإن عليا ناظر ما تجيبه فأهد له حربا تشيب النواصيا
وإلا فسلم إن في الأمن راحة لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتابا يا ابن حرب كتبته على طمع جان عليك الدواهيا
سألت عليا فيه ما لا تناله ولو نلته لم يبق إلا لياليا
إلى أن ترى منه التي ليس بعدها بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا
ومثل علي تغترره بخدعة وقد كان ما جربت من قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرة حذاك ابن هند بعد ما كنت حاذيا
وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية ، فقالوا له : أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ فقال : والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل ، وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ، وأنا ابن عمه ، وأنا أطلب بدمه ، وأمره إلي ؟ فقولوا له فليسلم إلي قتلة عثمان ، وأنا أسلم له أمره . فأتوا عليا ، فكلموه في ذلك ، فلم يدفع إليهم أحدا ، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية .
وعن عامر الشعبي أو أبي جعفر الباقر ، قال : بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم ; ليستعلم طاعتهم لمعاوية ، فلما قدم ، أمر معاوية فنودي في الناس : الصلاة جامعة . فملئوا المسجد ، ثم صعد المنبر ، فقال في خطبته : إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق ، فما الرأي ؟ فضرب كل منهم على صدره ، ولم يتكلم أحد منهم ، ولا رفعوا إليه أبصارهم ، وقام ذو الكلاع فقال : يا أمير المؤمنين ، عليك الرأي وعلينا امفعال . يعني : الفعال . ثم نادى معاوية في الناس أن اخرجوا إلى معسكركم في ثلاث ، فمن تخلف فقد أحل بنفسه . فاجتمعوا كلهم ، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره ، فأمر علي مناديا فنادى : الصلاة جامعة . فاجتمعوا ، فصعد المنبر فقال : إن معاوية قد جمع الناس لحربكم ، فما الرأي ؟ فقال كل فريق منهم مقالة ، واختلط كلام بعضهم في بعض ، فلم يدر علي مما قالوا شيئا ، فنزل عن المنبر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد . ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان .
وعن أبي عبيدة قال : قال معاوية : لقد وضعت رجلي في الركاب ، وهممت يوم صفين بالهزيمة ، فما منعني إلا قول ابن الإطنابة حيث يقول :
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإكراهي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
وعن الإمام أحمد أنه قال : الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي . فقيل له : فمعاوية ؟ قال : لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي ، ورحم الله معاوية .
وقال علي بن المديني : سمعت سفيان بن عيينة يقول : ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة ، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع عليا بها .
وقيل لشريك القاضي : كان معاوية حليما ؟ فقال : ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا . رواه ابن عساكر .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة ، فقال فيه قولا شديدا ، ثم بلغه أن عليا لبى عشية عرفة ، فتركه .
وعن عمر بن عبد العزيز قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده ، فسلمت وجلست ، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية ، فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر ، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول : قضي لي ورب الكعبة . ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول : غفر لي ورب الكعبة .
وروى ابن عساكر ، عن أبي زرعة الرازي ، أنه قال له رجل : إني أبغض معاوية . فقال له : ولم ؟ قال : لأنه قاتل عليا . فقال له أبو زرعة : ويحك ! إن رب معاوية رب رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم ، فأيش دخولك أنت بينهما ؟ ! رضي الله عنهما .
وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية ، فقرأ :
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ البقرة : 134 ] . وكذا قال غير واحد من السلف .
وقال الأوزاعي : سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال : كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة ، ولهذا قرابة ولهذا قرابة ، فابتلي هذا وعوفي هذا . وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال : كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة ، ولهذا سابقة ، ولم يكن لهذا سابقة ، فابتليا جميعا .
المفاضلة علي ومعاوية وقال كلثوم بن جوشن : سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال : أبو بكر أفضل أم علي ؟ فقال : سبحان الله ! ولا سواء ، سبقت لعلي سوابق شركه فيها أبو بكر ، وأحدث علي أ?حداثا لم يشركه فيها أبو بكر ، أبو بكر أفضل . فقال : فعمر أفضل أم علي ؟ فقال مثل قوله الأول ، ثم قال : عمر أفضل . ثم قال : عثمان أفضل أم علي ؟ فقال مثل قوله الأول ، ثم قال : عثمان أفضل . قال : فعلي أفضل أم معاوية ؟ فقال : سبحان الله ! ولا سواء ، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية ، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية
، علي أفضل من معاوية .
وقد روي عن الحسن البصري أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء ; قتاله عليا ، وقتله حجر بن عدي واستلحاقه زياد بن أبيه ، ومبايعته ليزيد ابنه .
وقع قتل علي بن أبي طالب على معاوية وقال جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة قال : لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ، فقالت له امرأته : أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال : ويحك ! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم . وفي رواية أنها قالت له : بالأمس تقاتله واليوم تبكيه ؟ !
قلت : وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين كما قدمنا . تولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة ولهذا قال الليث بن سعد : إن معاوية بويع له بإيلياء بيعة الجماعة ، ودخل الكوفة سنة أربعين . والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور ; أنه بويع له بإيلياء في رمضان سنة أربعين ، حين بلغ أهل الشام مقتل علي ، ولكنه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول ، سنة إحدى وأربعين ، وهو عام الجماعة ، وذلك بمكان يقال له : أذرح . وقيل : بمسكن . من أرض سواد العراق من ناحية الأنبار ، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين . وقد قال بعضهم : كان نقش خاتم معاوية : لكل عمل ثواب . وقيل : بل كان : لا قوة إلا بالله .
وعن سعيد بن سويد قال : صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني خارج الكوفة - الجمعة في الضحى ، ثم خطبنا فقال : ما قاتلتكم لتصوموا ، ولا لتصلوا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك ، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون . وعن الزهري ، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ، ثم إنه بعد .
وعن سفيان بن الليل قال : قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة : يا مذل المؤمنين . قال : لا تقل ذلك ، فإني سمعت أبي يقول : لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية . فعلمت أن أمر الله واقع ، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين .
وعن الحارث الأعور قال : قال علي بعد ما رجع من صفين : أيها الناس ، لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرءوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل .
وعن الأسود بن يزيد قال : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الخلافة ؟ فقالت : وما تعجب من ذلك ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة .
وعن القاسم بن محمد ، أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة ، فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد إلا ذكوان أبو عمرو مولى عائشة ، فقالت : أمنت أن أخبئ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا ؟ فقال : صدقت . فكلمها معاوية ، فلما قضى كلامه معها تشهدت عائشة ، ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، والذي سن الخلفاء بعده ، وحضت معاوية على اتباع أمرهم ، فقالت في ذلك فلم تترك ، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية : أنت والله العالمة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الناصحة المشفقة البليغة الموعظة ، حضضت على الخير وأمرت به ، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا ، وأنت أهل أن تطاعي . وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا . فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال : والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة .
وعن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه قالت : قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة ، فأرسل إلى عائشة أن أرسلي إلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره ، فأرسلت به معي أحمله ، حتى دخلت به عليه ، فأخذ الأنبجانية ، فلبسها ، وأخذ شعره فدعا بماء ، فغسله وشربه ، وأفاض على جلده .
وعن الشعبي قال : لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا : الحمد لله الذي أعز نصرك ، وأعلى أمرك . فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة ، فقصد المسجد وعلا المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها ، وإني لعالم بما في نفوسكم ، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة ، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ، وأردتها على عمل ابن الخطاب ، فكانت أشد نفورا ، وحاولتها على مثل سنيات عثمان ، فأبت علي ، وأين مثل هؤلاء ؟ ! هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم ، رحمة الله ورضوانه عليهم ، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة ، ولكم فيه مثل ذلك ، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ، ومشاربة جميلة ، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة ، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم ، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني ، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه ، فإنها ليست بقائبة قوبها ، وإن السيل إذا جاء تترى - وإن قل - أغنى ، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها ، فإنها تفسد المعيشة ، وتكدر النعمة ، وتورث الاستئصال ، أستغفر الله لي ولكم . ثم نزل . قال أهل اللغة : القائبة : البيضة ، والقوب : الفرخ ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ .
والظاهر أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين ، أو في سنة خمسين ، لا في عام الجماعة .
أول حجة حجها معاوية بعد اجتماع الناس عليه وعن صالح بن كيسان ، أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه ، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش ، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان ، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان ، وندبت أباها ، فقال معاوية لمن معه : انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار . فانصرفوا ودخل ، فسكن عائشة ، وأمرها بالكف ، وقال لها : يا بنت أخي ، إن الناس أعطونا سلطانا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب ، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، فبعناهم هذا ، وباعونا هذا ، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا شحوا على حقهم ، ومع كل إنسان منهم شيعة ، وهو يرى مكان شيعتهم ، فإن نكثناهم نكثوا بنا ، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا ؟ وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين خير من أن تكوني أمة من إماء المسلمين ، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك .
وعن سعيد بن عبد العزيز قال : لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو ، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة ، تذهب سرية في الصيف وتشتو بأرض الروم ، ثم تقفل وتعقبها أخرى ، وكان في جملة من أغزا ابنه يزيد ، ومعه خلق من الصحابة ، فجاز بهم الخليج ، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ، ثم قفل بهم . آخر ما أوصى به معاوية وكان
آخر ما أوصى به معاوية أن قال : شدوا خناق الروم .
، وعن الزهري قال : حج بالناس معاوية في أيام خلافته مرتين ، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهرا .
وقال أبو بكر بن عياش : حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين ، وسنة خمسين . وقال غيره : سنة إحدى وخمسين . فالله أعلم .
وعن بسر بن سعيد ، أن سعد بن أبي وقاص قال : ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب . يعني معاوية .
وعن المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية ، قال : فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال : سلمت عليه - فقال : ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور ؟ قال : قلت : ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له . فقال : لتكلمني بذات نفسك . قال : فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به . فقال : لا براء من الذنوب ، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فما يجعلك أحق بأن ترجو المغفرة مني ، فوالله لما ألي من الإصلاح بين الناس وإقامة الحدود والجهاد في سبيل الله والأمور العظام التي نحصيها والتي لا نحصيها أكثر مما تلي ، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات ، ووالله على ذلك ما كنت لأخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه . قال : ففكرت حين قال لي ما قال ، فعرفت أنه قد خصمني . قال : فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير . وعن العتبي قال : قال معاوية : يا أيها الناس ، ما أنا بخيركم ، وإن منكم لمن هو خير مني ; عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهما من الأفاضل ، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية ، وأنكاكم في عدوكم ، وأدركم حلبا . من خطب معاوية بن أبي سفيان وعن يونس بن حلبس قال : سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول : أيها الناس ، اعقلوا قولي ، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني ، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة ، فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم ، أو ليخالفن الله بين قلوبكم ، خذوا على أيدي سفهائكم ، أو ليسلطنهم الله عليكم فليسومنكم سوء العذاب ، تصدقوا ولا يقولن الرجل : إني مقل . فإن
صدقة المقل أفضل من صدقة الغني ،
وإياكم وقذف المحصنات ، وأن يقول الرجل : سمعت . و : بلغني . فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة .
تواضع معاوية بن أبي سفيان كان معاوية متواضعا ، ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق ، فيضرب بها الناس .
عن وعن يونس بن ميسرة بن حلبس قال : رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصيفا ، عليه قميص مرقوع الجيب ، وهو يسير في أسواق دمشق .
وقال الأعمش ، عن مجاهد أنه قال : لو رأيتم معاوية لقلتم : هذا المهدي .
وعن ابن عمر قال : ما رأيت أحدا أسود من معاوية . قال : قلت : ولا عمر ؟ قال : كان عمر خيرا منه ، وكان معاوية أسود منه . معاوية أول الملوك وعن ابن أبي عتبة ، عن شيخ من أهل المدينة قال : قال معاوية : أنا
أول الملوك .
وعن ابن شوذب قال : كان معاوية يقول : أنا أول الملوك وآخر خليفة .
قلت : والسنة أن
يقال لمعاوية : ملك . ولا يقال له : خليفة . لحديث سفينة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا عضوضا " .
حلم معاوية بن أبي سفيان وقال عبد الملك بن مروان يوما ، وذكر معاوية فقال : ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه .
وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت أحدا أعظم حلما ، ولا أكثر سؤددا ، ولا أبعد أناة ، ولا ألين مخرجا ، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية .
وقال بعضهم : أسمع رجل معاوية كلاما شديدا ، فقيل له : لو سطوت عليه ! فقال : إني لأستحيي أن يضيق حلمي عن أحد من رعيتي . وفي رواية : قال له رجل : يا أمير المؤمنين ، ما أحلمك ! فقال : إني لأستحيي أن يكون جرم رجل أعظم من حلمي .
وقال الأصمعي ، عن الثوري قال : قال معاوية : إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي ، أو جهل أكبر من حلمي ، أو تكون عورة لا أواريها بستري .
وقال الشعبي - والأصمعي ، عن أبيه - قالا : جرى بين رجل يقال له : أبو الجهم . وبين معاوية كلام ، فتكلم أبو الجهم بكلام فيه غم لمعاوية ، فأطرق ، ثم رفع رأسه فقال : يا أبا الجهم ، إياك والسلطان ، فإنه يغضب غضب الصبيان ، ويأخذ أخذ الأسد ، وإن قليله يغلب كثير الناس . ثم أمر له بمال ، فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية :
نميل على جوانبه كأنا إذا ملنا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه فنخبر منهما كرما ولينا
وقال الأعمش : طاف الحسن بن علي مع معاوية ، فكان معاوية يمشي بين يديه ، فقال الحسن : ما أشبه أليتيه بأليتي هند . فالتفت إليه معاوية فقال : أما إنه كان يعجب أبا سفيان .
وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم لمعاوية : إن فلانا يشتمني . فقال له : تطأطأ لها تمر فتجاوزك .
وقال ابن الأعرابي : قال رجل لمعاوية : ما رأيت أنذل منك . فقال معاوية : بلى ، من واجه الرجال بمثل هذا .
وقال أبو عمرو بن العلاء : قال معاوية : ما يسرني بدل الكرم حمر النعم . وقال بعضهم : قال معاوية : يا بني أمية ، قاربوا قريشا بالحلم ، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما ، فأرجع وهو لي صديق ، أستنجده فينجدني ، وأثور به فيثور معي ، وما رفع الحلم عن شريف شرفه ، ولا زاده إلا كرما . وقال : آفة الحلم الذل . وقال أيضا : لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله ، وصبره شهوته ، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم .
وقال عبد الله بن الزبير : لله در ابن هند ، والله إن كنا لنفرقه - وما الليث على براثنه بأجرأ منه - فيتفارق لنا ، وإن كنا لنخدعه - وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه - فيتخادع لنا ، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر . وأشار إلى أبي قبيس . وقال رجل لمعاوية : من أسود الناس ؟ فقال : أسخاهم نفسا حين يسأل ، وأحسنهم في المجالس خلقا ، وأحلمهم حين يستجهل .
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيرا :
فما قتل السفاهة مثل حلم يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن ملئت غيظا على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخا لك عند ذنب فإن الذنب يغفره الكريم
وعن ابن عباس أنه قال : قد علمت بم غلب معاوية الناس ، كانوا إذا طاروا وقع ، وإذا وقعوا طار .
وقال غيره : كتب معاوية إلى نائبه زياد : إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة ; باللين فيمرحوا ، ولا بالشدة فنحمل الناس على المهالك ، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة ، أكون أنا للين والألفة والرحمة ، فإذا خاف خائف وجد بابا يدخله .
عطاء معاوية بن أبي سفيان وقال أبو مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار كانت عليها .
وقال هشام بن عروة ، عن أبيه قال : بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ، ففرقتها من يومها ، فلم يبق منها درهم ، فقالت لها خادمتها : هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما . فقالت : لو أذكرتني لفعلت .
وقال عطاء : بعث معاوية إلى عائشة - وهي بمكة - بطوق قيمته مائة ألف ، فقبلته .
وعن عبد الله بن بريدة قال : قدم الحسن بن علي على معاوية فقال : لأجيزنك بجائزة لم يجز بها أحد كان قبلي . فأعطاه أربعمائة ألف ألف .
ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف ، وقال لهما : ما أجاز بها أحد قبلي . فقال له الحسين : ولم تعط أحدا أفضل منا .
وقال أبو مروان المرواني : بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف ، فقال : لجلسائه : من أخذ شيئا فهو له . وبعث إلى الحسين بمائة ألف ، فقسمها على جلسائه ، وكانوا عشرة ، فأصاب كل واحد عشرة آلاف . وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف ، فاستوهبتها منه امرأته ، فأطلقها لها . وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف ، فقسم منها خمسين ألفا ، وحبس خمسين ألفا ، وبعث إلى عبد الله بن عمر بمائة ألف ، ففرق منها تسعين ألفا ، واستبقى عشرة آلاف . فقال معاوية : إنه لمقتصد يحب الاقتصاد ، وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول : لم جئت بها بالنهار ؟ هلا جئت بها بالليل . ثم حبسها عنده ، ولم يعط منها أحدا شيئا ، فقال معاوية : إنه لخب ضب ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع .
وقال ابن داب : كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف ، ويقضي له معها مائة حاجة ، فقدم عليه عاما ، فأعطاه المال ، وقضى له الحاجات ، وبقيت منها حاجة واحدة ، فبينما هو عنده إذ قدم أصبهبذ سجستان يطلب من معاوية أن يملكه تلك البلاد ، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف ، فطاف على رءوس الأمراء من أهل الشام وأمراء العراق ، ممن قدم مع الأحنف بن قيس فكلهم يقولون له : عليك بعبد الله بن جعفر . فقصده الدهقان ، فكلم فيه ابن جعفر معاوية ، فقضى حاجته تكملة المائة حاجة ، وأمر الكاتب فكتب له عهده ، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان ، فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم ، فقال له ابن جعفر : اسجد لله ، واحمل مالك إلى منزلك ، فإنا أهل بيت لا نتبع المعروف بالمن . فبلغ ذلك معاوية فقال : لأن يكون يزيد قالها أحب إلي من خراج العراق ، أبت بنو هاشم إلا كرما .
وقال غيره : كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف ، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف ، فألح عليه غرماؤه ، فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية ، فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء ، فركب إليه ، فقال له : ما أقدمك يا ابن جعفر ؟ فقال : دين ألح علي غرماؤه . فقال : وكم هو : قال : خمسمائة ألف . فقضاها عنه . وقال له : إن الألف ألف ستأتيك في وقتها .
وعن قتادة قال : قال معاوية : يا عجبا للحسن بن علي ! شرب شربة عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه . ثم قال لابن عباس : لا يسوءك الله ولا يخزيك في الحسن بن علي . فقال ابن عباس لمعاوية : لا يخزيني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين . قال : فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء ، وقال : خذها فاقسمها في أهلك .
وقال أبو الحسن المدائني ، عن سلمة بن محارب قال : قيل لمعاوية : أيكم كان أشرف ; أنتم أو بنو هاشم ؟ قال : كنا أكثر أشرافا وكانوا أشرف واحدا ; لم يكن في عبد مناف مثل هاشم ، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر أشرافا ، وكان فيهم عبد المطلب ، ولم يكن فينا مثلهم ، فصرنا أكثر عددا وأكثر أشرافا ولم يكن فيهم واحد كواحدنا ، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأولون بمثله ، ولا يسمع الآخرون بمثله ; محمد صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس ، أن عمرو بن العاص قص على معاوية مناما رأى فيه أبا بكر وعمر وعثمان ، وهم يحاسبون على ما ولوه في أيامهم ، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه ، فقال له معاوية : ما رأيت ثم دنانير مصر ؟ !
وعن العتبي قال : دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة ، فاسترجع معاوية ، فقال عمرو بن العاص :
يموت الصالحون وأنت حي تخطاك المنايا لا تموت
فقال له معاوية :
أترجو أن أموت وأنت حي فلست بميت حتى تموت
وقال ابن السماك : قال معاوية : كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة ; فإنه لا يرضيه إلا زوالها .
وعن أبي بحرية قال : قال معاوية :
المروءة في أربع ; العفاف في الإسلام ، واستصلاح المال ، وحفظ الإخوان ،
وحفظ الجار .
من شعر معاوية بن أبي سفيان وقال أبو بكر الهذلي : كان معاوية يقول الشعر ، فلما ولي الخلافة قال له أهله : قد بلغت الغاية ، فماذا تصنع بالشعر ؟ فارتاح يوما فقال
سرحت سفاهتي وأرحت حلمي وفي على تحلمي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني إلى حاجاتها الحدق المراض
أوليات معاوية بن أبي سفيان وقال مغيرة ، عن الشعبي : أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه . وكذا روى مغيرة ، عن إبراهيم أنه قال :
أول من خطب جالسا يوم الجمعة معاوية . وقال أبو المليح ، عن ميمون : أول من جلس على المنبر معاوية ، واستأذن الناس في الجلوس .
وقال قتادة ، عن سعيد بن المسيب :
أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية .
وقال أبو جعفر الباقر : كانت
أبواب مكة لا أغلاق لها ، وأول من اتخذ لها الأبواب معاوية .
وعن الزهري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512582مضت السنة أن لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ،
وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية ، وقضى بذلك بنو أمية بعده ، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة ، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده . وبه قال الزهري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512583ومضت السنة أن دية المعاهد كدية المسلم ، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف ، وأخذ النصف لنفسه .
أقوال السلف في معاوية بن أبي سفيان وعن الزهري قال : سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : اسمع يا زهري ، من مات محبا لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وشهد للعشرة بالجنة ، وترحم على معاوية ، كان حقيقا على الله أن لا يناقشه الحساب .
وقال محمد بن يحيى بن سعيد : سئل ابن المبارك عن معاوية فقال : ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سمع الله لمن حمده " . فقال خلفه : ربنا ولك الحمد ؟ ! فقيل له : أيما أفضل ؟ هو أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز .
وقال غيره عن ابن المبارك قال : معاوية عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القوم . يعني الصحابة .
وسئل المعافى بن عمران أيما أفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز ؟ فغضب وقال للسائل : تجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين ؟ ! معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512584 " دعوا لي أصحابي وأصهاري ، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " . وكذا قال الفضل بن عنبسة .
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي : معاوية ستر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه .
وقال الميموني : قال لي أحمد بن حنبل : يا أبا الحسن ، إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام .
وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص : أيقال له رافضي ؟ فقال : إنه لم يجتر عليهما إلا وله خبيئة سوء ، ما انتقص أحد أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وله داخلة سوء .
وعن إبراهيم بن ميسرة قال : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية ، فإنه ضربه أسواطا .
وقال بعض السلف : بينا أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول : من أبغض الصديق فذاك زنديق ، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمر ، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن ، ومن أبغض علي فذاك خصمه النبي ، ومن أبغض معاويه ، سحبته الزبانيه ، إلى جهنم الحاميه ، ويرمى به في الهاويه .
وقال بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ، إذ جاء رجل فقال عمر : يا رسول الله ، هذا ينتقصنا . فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني لا أنتقص هؤلاء ، ولكن أنتقص هذا . يعني معاوية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلك ! أو ليس هو من أصحابي ؟ ! قالها ثلاثا ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربة ، فناولها معاوية فقال : جأ بها في لبته . فضربه بها ، وانتبهت فبكرت إلى منزله ، فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات . وهو راشد الكندي .
وروى ابن عساكر عن الفضيل بن عياض ، أنه كان يقول : معاوية من الصحابة ، من العلماء الكبار ، ولكن ابتلي بحب الدنيا .
بعض من سيرة وأخبار معاوية بن أبي سفيان وقال العتبي : قيل لمعاوية : أسرع إليك الشيب . فقال : كيف لا ولا أزال أرى رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه ، فإن أصبت لم أحمد ، وإن أخطأت سارت بها البرد .
وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية ، فقال لهم في الطريق : إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة ; فإنه لا يحب ذلك . فلما دخل عليه عمرو قبلهم قال معاوية لحاجبه : أدخلهم . وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم ، وقال : إني لأظن عمرا قد تقدم إليهم في شيء . فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول : السلام عليك يا رسول الله . فلما نهض عمرو من عنده قال : قبحكم الله ! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة !
وذكر أن رجلا سأل من معاوية أن يساعده في بناء دار باثني عشر ألف جذع من الخشب . فقال له معاوية : أين دارك ؟ قال : بالبصرة . وكم اتساعها ؟ قال : فرسخان في فرسخين . قال : لا تقل داري بالبصرة ، ولكن قل البصرة في داري .
وذكر أن رجلا دخل بابن معه ، فجلسا على سماط معاوية ، فجعل ولده يأكل أكلا ذريعا ، فجعل معاوية يلاحظه ، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن ، فلما خرجا لامه أبوه ، وقطعه عن الدخول ، فقال له معاوية : أين ابنك التلقامة ؟ قال : اشتكى . قال : قد علمت أن أكله سيورثه داء .
قال : ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة ، فجعل يزدريه . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك لا تخاطب العباءة ، إنما يخاطبك من فيها .
وقال معاوية : أفضل الناس من عقل وحلم ; من إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا غضب كظم ، وإذا قدر غفر ، وإذا وعد أنجز ، وإذا أساء استغفر .
[محاورة جارية بن قدامة لسيدنا معاوية رضي الله عنه]
وأخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال: (قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية، فقال: من أنت؟ قال: جارية بن قدامة، قال: وما عسيت أن تكون؟ هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا تفعل؛ فقد شبهتني بها حامية اللسعة، حلوة البساق، والله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب، وما أمية إلا تصغير أمة).
وأخرج عن الفضل بن سويد قال: (وفد جارية بن قدامة على معاوية، فقال له معاوية: أنت الساعي مع علي بن أبي طالب، والموقد النار في شعلك، تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟.
قال جارية: يا معاوية؛ دع عنك عليا، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه، ولا غششناه منذ نصحناه.
قال: ويحك يا جارية!! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية.
قال: أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك؛ إذ سموك معاوية، قال: لا أم لك.
قال: أم ما ولدتني، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا!! قال: إنك لتهددني؟!
قال: إنك لم تملكنا قسرة، ولم تفتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق، فإن وفيت لنا... وفينا لك، وإن ترغب إلى غير ذلك.. فقد تركنا وراءنا رجلا مدادا، وأذرعا شدادا، وأسنة حدادا، فإن بسطت إلينا فترا من غدر.. دلفنا إليك بباع من ختر.
قال معاوية: لا أكثر الله في الناس أمثالك).
وأخرج عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي: أنه دخل على معاوية، فقال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه، قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟! فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:
لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي