وفي سنة ست وستين ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس ، وعمارة الجامع الأقصى ، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين ، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة ، وكان يخطب في أيام منى وعرفة ، ومقام الناس بمكة ، وينال من عبد الملك ، ويذكر مساوئ بني مروان ، ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل ، وإنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه ، وكان يدعو إلى نفسه ، وكان فصيحا ، فمال معظم أهل الشام إليه ، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا ، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وينحرون يوم العيد ويحلقون رءوسهم ففتح بذلك على نفسه باب تشنيع ابن الزبير عليه ، فكان يشنع عليه بمكة ويقول ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى ، والخضراء كما فعل معاوية ، ونقل الطواف من بيت الله إلى قبلة بني إسرائيل ، ونحو ذلك .

ولما أراد عبد الملك بناءها سار من دمشق إلى بيت المقدس ومعه الأموال والعمال ، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ، ويزيد بن سلام مولاه ، وجمع الصناع والمهندسين فأمرهم فصوروا له القبة في صحن المسجد فأعجبه ، وبنى للمال بيتا شرقي القبة ، وشحنه بالمال ، وأمر رجاء بن حيوة ، ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ، ولا يتوقفا فيه ، فبثوا النفقات وأكثروا فبنوا القبة التي هي اليوم قائمة ، وبنوا من ناحية القبلة سبع قباب ، والقبة التي باقية اليوم على المحراب هي أوسطها ، ولما تم بناء القبة عمل لها جلالين أحدهما من لبود أحمر للشتاء ، والآخر من أدم للصيف ، وحف الصخرة بدرابزين من الساج المطعم باليشم ، وخلف الدرابزين ستور من الديباج مرخاة بين العمد ، وكانت السدنة كل خميس واثنين يذوبون المسك ، والعنبر والماورد والزعفران ويعملون منه غالية ، ويخمرونها من الليل ثم يدخل الخدم الحمام من الليل فيغتسلون ويتطيبون ، ويلبسون ثياب الوشي ، ويشدون أوساطهم بالمناطق المحلاة بالذهب ويخلقون الصخرة ، ثم يضعون البخور في مجامر الذهب والفضة ، وفيها العود القماري المغلي بالمسك ، ويرخي السدنة الستور فتخرج تلك الرائحة فتملأ المدينة كلها ، ثم ينادي مناد : ألا إن الصخرة قد فتحت ، فمن أراد الزيارة فليأت ، فيقبل الناس مبادرين ، فيصلون ويخرجون ، فمن وجدت منه رائحة البخور قال الناس : هذا كان اليوم في الصخرة .

وأبواب الصخرة أربعة ، على كل باب عشرة من الحجبة ، الباب الشمالي يسمى باب الجنة ، والشرقي باب إسرائيل ، والغربي باب جبريل ، والقبلي باب الأقصى ، وكانوا يشعلونها بدهن البان ، ولا يدخلها أحد غير أيام الزيارة سوى الخدم ، وكان للحرم عشرون بابا ، وكان فيه ألف عمود من الرخام ، وفي السقوف ستون ألف خشبة من الساج المنقوش ، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل ، وكان فيه أربعمائة سلسلة ، كل سلسلة ألف رطل شامي ، طول السلاسل ثلاثون ألف ذراع ، وكان يوقد في الصخرة كل ليلة مائة شمعة ، وكذا في الأقصى ، وكان يوقد في القناديل كل ليلة من الزيت المفتول قنطار ، وكان في الحرم خمسون قبة ، ومن ألواح الرصاص سبعون ألف لوح ، وكان في الحرم ثلاثمائة خادم ابتاعوا من بيت المال من الخمس ، كلما مات واحد قام ولده بعده مقامه ، ويقبضون أرزاقهم من بيت المال شهرا بشهر ، وكان في الحرم مائة صهريج ، وكانت صفائح القبة وسقف الأقصى من صفائح الذهب عوض الرصاص ، وكذلك أبواب القبة صفائحها ، وذلك أنه لما كمل البناء فضل من المال ثلاثمائة ألف دينار ، وقيل ستمائة ألف . وكتب رجاء بن حيوة ، و يزيد إلى عبد الملك يعرفانه بذلك ، فكتب إليهما : قد جعلته لكما عوضا عن تعبكما . فكتبا إليه : إنما قمنا بهذا البيت لله تعالى ، فلا نقبل على ذلك عرض الدنيا ، ولوددنا أن نزيد فيه من حلي نسائنا . فكتب إليهم إذا أبيتم ذلك فأفرغاه على القبة والأبواب ، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب . فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم القدس سنة أربعين ومائة فوجد الأقصى وقبابه تشكو من الخراب ، فأمر بقلع الصفائح التي على القبة والأبواب ، وأن يعمر بها ما تشعث في الحرم ، ففعلوا ذلك ، وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزاد في عرضه ، ولما كمل البناء كتبوا على القبة مما يلي الباب القبلي من جهة الأقصى بالنص بعد البسملة : بنى هذه القبة عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية ، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستين ذراعا ، وعرضه أربعمائة وستين ذراعا ، وكان فتح القدس سنة ست عشرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية