قتل سعيد بن جبير قال ابن جرير : وفي سنة أربع وتسعين قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير ، وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى قتال رتبيل ، فلما خلعه ابن الأشعث خلعه معه سعيد بن جبير ، فلما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان ، فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه ، فلما سمع بذلك سعيد هرب منها ، ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج ، ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري ، فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها ، فقال سعيد : والله لقد استحييت من الله ، مم أفر ولا مفر من قدره؟!

وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز ، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من أهل العراق إلى الحجاج في القيود ، فتعلم منه خالد بن عبد الله القسري ، فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد بن جبر ، وعمرو بن دينار ، وطلق بن حبيب .

ويقال : إن الحجاج كتب إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق ، فبعث خالد بهؤلاء إليه ، ثم عفا عن عطاء ، وعمرو بن دينار; لأنهما من أهل مكة ، وبعث بأولئك الثلاثة ، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل ، وأما مجاهد فحبس حتى مات الحجاج .

وكان سيرهم مع حرسين ، فانطلق أحدهما لحاجة وبقي الآخر ، فقال لسعيد ، وقد استيقظ من نومه ليلا : يا سعيد ، إني أبرأ إلى الله من دمك ، إني رأيت في منامي ، فقيل لي : ويلك ! تبرأ من دم سعيد بن جبير ! فاذهب حيث شئت فإني لا أطلبك . فأبى سعيد ، فرأى ذلك الحرس مثل تلك الرؤيا ثلاثا ، ويأذن لسعيد في الذهاب وهو لا يفعل .

فقدموا به الكوفة ، فأنزل في داره ، وأتاه قراء الكوفة ، فجعل يحدثهم وهو يضحك وبنية له في حجره ، فلما نظرت إلى القيد في رجله بكت ، ثم أدخلوه على الحجاج بعث سعيد بن جبير على الحجاج فلما وقف بين يدي الحجاج قال له : يا سعيد ، ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ألم أفعل ، ألم أفعل؟ كل ذلك يقول : نعم . حتى ظن من عنده أنه سيخلي سبيله حتى قال له : فما حملك على أن خرجت علي ، وخلعت بيعة أمير المؤمنين؟ فقال سعيد : إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك ، وعزم علي . فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا ، وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه ، وقال له : ويحك ، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها ، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال : بلى . قال : ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة ، فأخذت بيعتك له ثانية؟ قال : بلى . قال : فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين ، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسي اضرب عنقه . قال : فضربت عنقه ، فندر رأسه ، عليه لاطئة صغيرة بيضاء .

وقال الواقدي : لما أوقف سعيد بن جبير قدام الحجاج ، قال : يا شقي بن كسير ، أما قدمت الكوفة فجعلتك إماما؟ قال : بلى . قال : أما وليتك القضاء ، فضج أهل الكوفة : إنه لا يصلح للقضاء إلا عربي . فجعلت أبا بردة ، وأمرته أن لا يقطع أمرا دونك؟ قال : بلى . قال : أما أعطيتك مائة ألف تفرقها على أهل الحاجة؟ قال : بلى . قال : فما أخرجك علي؟ قال : بيعة كانت في عنقي لابن الأشعث . فغضب الحجاج ، وقال : أما كانت بيعة أمير المؤمنين في عنقك من قبل؟ ثم قال : أكفرت إذ خرجت علي؟ قال : ما كفرت منذ آمنت . فقال : اختر أي قتلة أقتلك . فقال : اختر أنت ، فإن القصاص أمامك . فقال الحجاج : يا حرسي ، اضرب عنقه . وذلك في رمضان سنة خمس وتسعين بواسط ، وقبره ظاهر يزار .

ولما قتله خرج منه دم كثير حتى راع الحجاج ، فدعا طبيبا ، فسأله عن ذلك ، فقال : إنك قتلته ونفسه معه ، وقلبه حاضر . وقيل : إن الحجاج رئي في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : قتلني بكل رجل قتلته قتلة ، وقتلني بسعيد بن جبير اثنتين وسبعين قتلة . والله أعلم .

قال ابن جرير فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال : سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل ، قال : لما قتل الحجاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلل ثلاثا مرة يفصح بها ، وفي الثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها .

وذكر أبو بكر الباهلي قال : سمعت أنس بن أبي شيخ يقول : لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال : لعن ابن النصرانية يعني خالدا القسري ، وكان هو الذي أرسل به من مكة أما كنت أعرف مكانه؟! بلى والله ، والبيت الذي هو فيه بمكة . ثم أقبل عليه ، فقال : يا سعيد ، ما أخرجك علي؟ فقال أصلح الله الأمير ، أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ، ويصيب أخرى . فطابت نفس الحجاج ، وانطلق وجهه ، ورجا الحجاج أن يتخلص من أمره ، ثم عاوده في شيء فقال سعيد : إنما كانت بيعة في عنقي . فغضب عند ذلك الحجاج ، فكان ما كان من قتله .

وذكر عتاب بن بشير عن سالم الأفطس قال : أتي الحجاج بسعيد بن جبير ، وهو يريد الركوب ، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز ، فقال : والله لا أركب حتى تتبوأ مقعدك من النار ، اضربوا عنقه . فضربت عنقه ، قال : والتبس الحجاج في عقله مكانه ، فجعل يقول : قيودنا قيودنا . فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد ، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه ، وأخذوا القيود .

وقال محمد بن حاتم : بسنده عن هلال بن خباب قال : جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال : كتبت إلى مصعب بن الزبير؟ فقال : بل كتب إلي مصعب . قال : والله لأقتلنك . قال : إني إذا لسعيد كما سمتني أمي . قال : فقتله . فلم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يوما ، فكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ، ويقول : يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج : ما لي ولسعيد بن جبير ، ما لي ولسعيد بن جبير؟ !

قال ابن خلكان : كان سعيد بن جبير بن هشام الأسدي ، مولى بني والبة كوفيا ، أحد الأعلام من التابعين ، وكان أسود اللون ، وكان لا يكتب على الفتيا ، فلما عمي ابن عباس كتب ، فغضب ابن عباس من ذلك . وذكر مقتله كنحو ما تقدم ، وذكر أنه كان في شعبان ، وأن الحجاج مات بعده في رمضان ، وقيل : بستة أشهر .

وذكر عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج أو قال : مفتقر إلى علمه . ويقال إن الحجاج لم يسلط بعده على أحد . .

سنة الفقهاء قال ابن جرير : وكان يقال لهذه السنة : سنة الفقهاء; لأنه مات فيها عامة فقهاء المدينة; مات في أولها علي بن الحسين زين العابدين ، ثم عروة بن الزبير ، ثم سعيد بن المسيب ، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وسعيد بن جبير من أهل مكة .

ترجمة سعيد بن جبير رحمه الله سعيد بن جبير الأسدي الوالبي

مولاهم ، أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله ، الكوفي المكي ، من أكابر أصحاب ابن عباس ، كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم ، وكثرة العمل الصالح ، رحمه الله ، وقد رأى خلقا من الصحابة ، وروى عن جماعة منهم ، وعنه خلق من التابعين ، يقال : إنه كان يقرأ القرآن فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة ، وكان يقعد في الكعبة القعدة فيقرأ فيها الختمة ، وربما قرأها في ركعة في جوف الكعبة ، وقد قال ابن عباس ، وقد أتاه أهل الكوفة يسألونه : أليس فيكم سعيد بن جبير؟

واختلفوا في عمر سعيد بن جبير ، رحمه الله ، حين قتل ، فقيل : كان عمره تسعا وأربعين سنة . وقيل : سبعا وخمسين . فالله أعلم .

قال أبو القاسم اللالكائي : كان مقتله في سنة خمس وتسعين . وذكر ابن جرير مقتله في هذه السنة سنة أربع وتسعين . فالله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية