ذكر ظهور الخلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى .

وكان السبب في ذلك أن الفضل بن الربيع لما قدم العراق من طوس ، ونكث عهد المأمون ، أفكر في أمره ، وعلم أن المأمون إن أفضت إليه الخلافة وهو حي - لم يبق عليه ، فسعى في إغراء الأمين ، وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد ، ولم يكن ذلك في عزم محمد الأمين ، فلم يزل الفضل يصغر عنده أمر المأمون ، ويزين له خلعه ، وقال له : ما تنتظر بعبد الله والقاسم ، فإن البيعة كانت لك قبلهما ، وإنما أدخلا فيها بعدك .

ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان ، والسندي وغيرهما ، فرجع الأمين إلى قولهم .

ثم إنه أحضر عبد الله بن خازم ، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل ، وكان مما قال عبد الله : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، أن تكون أول الخلفاء نكث على عهده ، ونقض ميثاقه ، ورد رأي الخليفة قبله ، ( فقال ) [ الأمين ] : اسكت ! فعبد الملك كان أفضل منك رأيا ، وأكمل نظرا ، يقول : لا يجتمع فحلان في أجمة .

ثم جمع القواد وعرض عليهم خلع المأمون ، فأبوا ذلك ، وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال : يا أمير المؤمنين ، لم ينصحك من كذبك ، ولم يغشك من صدقك ، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك ، فإن الغادر مخذول ، والناكث مغلول .

فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان فتبسم وقال : لكن شيخ الدعوة ، ونائب هذه الدولة ، لا يخالف على إمامه ، ولا يوهن طاعته .

ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها ، لأنه كان هو والفضل بن الربيع يعينانه على الخلع .

ولج الأمين في خلع المأمون ، حتى إنه قال يوما للفضل بن الربيع : يا فضل ! أحياة مع عبد الله ؟ لا بد من خلعه . والفضل يعده وهو يقول : فمتى ذلك ؟ إذا غلب على خراسان وما فيها ؟ !

فأول ما فعله أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء لابنه موسى بالإمرة ، بعد الدعاء للمأمون وللمؤتمن .

فلما بلغ ذلك المأمون ، مع عزل المؤتمن عما كان بيده ، أسقط اسم الأمين من الطرز ، وقطع البريد عنه .

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار ، لما بلغه حسن سيرة المأمون طلب الأمان ، فأجابه إلى ذلك ، فحضر عند المأمون ، وأقام هرثمة بسمرقند ومعه طاهر بن الحسين ، ثم قدم هرثمة على المأمون ، فأكرمه وولاه الحرس . فأنكر ذلك كله الأمين ، فكان مما وتر عليه أن كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك ، وهو عامل المأمون على الري ، يأمره أن ينفذ بغرائب غروس الري ، يريد امتحانه ، فبعث إليه بما أمره ، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين ، فبلغ المأمون ، ( فعزله بالحسن بن علي المأموني .

ثم وجه الأمين إلى المأمون أربعة ) أنفس ، وهم : العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي ، وعيسى بن جعفر بن المنصور ، وصالح صاحب المصلى ، ومحمد بن عيسى بن نهيك ، ويطلب إليه أن يقدم ابنه موسى على نفسه ( ويحضر عنده ، فقد استوحش لبعده ) ، فبلغ الخبر المأمون ، فكتب إلى عماله بالري ونيسابور وغيرهما ، يأمرهم بإظهار العدة والقوة ، ففعلوا ذلك ، وقدم الرسل على المأمون ، وأبلغوه الرسالة ، وكان ابن ماهان أشار بذلك ، وأخبر الأمين أن أهل خراسان معه .

فلما سمع المأمون هذه الرسالة استشار الفضل بن سهل فقال له : أحضر هشاما والد علي وأحمد ابني هشام ، واستشره . فأحضره ، واستشاره ، فقال له : إنما أخذت البيعة علينا على أن لا تخرج من خراسان ، فمتى فعل محمد ذلك فلا بيعة له في أعناقنا ، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، ومتى هممت بالمسير إليه تعلقت بك بيميني ، فإذا قطعت تعلقت بيساري ، فإن قطعت تعلقت بلساني ، فإذا ضربت عنقي كنت أديت ما علي .

فقوي عزم المأمون على الامتناع ، فأحضر العباس وأعلمه أنه لا يحضر ، ( وأنه لا يقدم موسى على نفسه ) ، فقال العباس بن موسى : ما عليك أيها الأمير من ذلك ، فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره . فصاح به ذو الرياستين : اسكت ! إن جدك كان أسيرا في أيديهم ، وهذا بين أخواله وشيعته .

ثم قاموا ، فخلا ذو الرياستين بالعباس بن موسى واستماله ، ووعده إمرة الموسم ، ومواضع من مصر ، فأجاب إلى بيعة المأمون ، وسمي المأمون ذلك الوقت بالإمام ، فكان العباس يكتب إليهم بالأخبار من بغداد .

ورجع الرسل إلى الأمين ، فأخبروه بامتناع المأمون ، وألح الفضل وعلي بن عيسى على الأمين في خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بن الأمين . وكان الأمين قد كتب إلى المأمون يطلب منه أن ينزل عن بعض كور خراسان ، وأن يكون له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار ، فاستشار المأمون خواصه وقواده ، فأشاروا باحتمال هذا الشر والإجابة إليه ، خوفا من شر هو أعظم منه .

فقال لهم الحسن بن سهل : أتعلمون أن الأمين طلب ما ليس له ؟ قالوا : نعم ! ويحتمل ذلك لضرر منعه . قال : فهل تثقون بكفه بعد إجابته ، فلا يطلب غيرها ؟ قالوا : لا ! قال : فإن طلب غيرها ، فما ترون ؟ قالوا : نمنعه ، فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء . قال : استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروهه في يومك ، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك .

فقال المأمون لذي الرياستين : ما تقول أنت ؟ فقال : أسعدك الله ، هل تؤمن أن يكون الأمين طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك ؟ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل ترجون به صلاح العاقبة .

فقال المأمون : بإيثار دعة العاجل صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته . فامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب .

وأنفذ المأمون ثقته إلى الحد ، فلا يمكن أحدا من العبور إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته ، فحظر أهل خراسان أن يستمالوا برغبة أو رهبة ، وضبط الطرق بثقات أصحابه ، فلم يمكنوا من دخول خراسان إلا من عرفوه ، وأتى بجواز ، أو [ كان ] تاجرا معروفا ، وفتشت الكتب .

وقيل : لما أراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان قال له إسماعيل بن صبيح : يا أمير المؤمنين ، إن هذا مما يقوي التهمة ، وينبه على الحذر ، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك ، وما تحب من قربه والاستعانة به على ما ولاك الله ، وتسأله القدوم عليك ، لترجع إلى رأيه فيما تفعل .

فكتب إليه بذلك ، وسير الكتاب مع نفر ، وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره ، وسير معهم الهدايا الكثيرة ، فلما حضر الرسل عنده ، وقرأ الكتاب وأشاروا عليه بإجابة الأمين ، وأعلموه ما في إجابته من المصلحة العامة والخاصة ، فأحضر ذا الرياستين ، وأقرأه الكتاب واستشاره ، فأشار عليه بملازمة خراسان ، وخوفه من القرب من الأمين ، فقال : لا يمكنني مخالفته ، وأكثر القواد والأموال معه ، والناس مائلون إلى الدرهم والدينار ، لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة ، ولست في قوة حتى أمتنع ، وقد فارق جيغويه الطاعة ، والتوى خاقان ملك التبت ، وملك الكابل قد استعد للغارة على ما يليه ، وملك أترادبنده قد منع الضريبة ، ومالي بواحد من هذه الأمور بد ، ولا أرى إلا تخلية ما أنا فيه ، واللحاق بخاقان ملك الترك ، والاستجارة به ؛ لعلي آمن على نفسي .

فقال ذو الرياستين : إن عاقبة الغدر شديدة ، وتبعة البغي غير مأمونة ، ورب مقهور قد عاد قاهرا ، وليس النصر بالكثرة والقلة ، والموت أيسر من الذل والضيم ، وما أرى أن تصير إلى أخيك متجردا من قوادك وجندك ، كالرأس الذي فارق بدنه ، فتكون عنده كبعض رعيته ، يجري عليك حكمه من غير أن تبلي عذرا في قتال ، واكتب إلى جيغويه وخاقان ، فولهما بلادهما ، وابعث إلى ملك كابل ببعض هدايا خراسان ، ووادعه ، واترك لملك أترادبنده ضريبته ، ثم اجمع أطرافك ، وضم جندك ، واضرب الخيل بالخيل ، والرجال بالرجال ، فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان .

فعرف المأمون صدقه ، ففعل ما أشار به ، فرضى أولئك الملوك العصاة ، وضم جنده ، وجمعهم عنده ، وكتب إلى الأمين : أما بعد ، فقد وصل [ إلي ] كتاب أمير المؤمنين ، وإنما أنا عامل من عماله ، وعون من أعوانه ، أمرني الرشيد بلزوم [ هذا ] الثغر ، ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين ، وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين ، فإن كنت مغتبطا بقربه ، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرني على عملي ويعفيني من الشخوص [ إليه ] فعل إن شاء الله .

فلما قرأ الأمين كتاب المأمون علم أنه لا يتابعه على ما يريده ، فكتب إليه يسأله أن ينزل عن بعض كور خراسان كما تقدم ذكره ، فلما امتنع المأمون أيضا من إجابته إلى ما طلب ، أرسل جماعة ليناظروه في منع ما طلب منه ، فلما وصلوا إلى الري منعوا ، ووجدوا تدبيره محكما ، وحفظوا في حال سفرهم وإقامتهم من أن يخبروا ويستخبروا ، وكانوا معدين لوضع الأخبار في العامة ، فلم يمكنهم ذلك ، فلما رجعوا أخبروا الأمين بما رأوا .

وقيل إن الأمين لما عزم على خلع المأمون ، وزين له ذلك الفضل وابن ماهان ، دعا يحيى بن سليم ، وشاوره في ذلك فقال : يا أمير المؤمنين ، كيف تفعل ذلك مع ما قد أكد الرشيد من بيعته ، وأخذ الشرائط والأيمان في الكتاب الذي كتبه ؟ فقال الأمين : إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيى ، فلا ينفعنا ما نحن فيه إلا بخلعه وقلعه واحتشاشه .

فقال يحيى : إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه ، فلا تجاهره فيستنكر الناس ذلك ، ولكن تستدعي الجند بعد الجند ، والقائد بعد القائد ، وتؤنسها بالألطاف والهدايا ، وتفرق ثقاته ومن معه ، وترغبهم بالأموال ، فإذا وهنت قوته ، واستفرغت رجاله ، أمرته بالقدوم عليك ، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه ، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وانقطع عزه .

فقال الأمين : أنت مهذار خطيب ، ولست بذي رأي مصيب ، قم فالحق بمدادك وأقلامك .

وكان ذو الرياستين الفضل بن سهل قد اتخذ قوما يثق بهم ببغداذ يكاتبونه بالأخبار ، وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق ، وكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرياستين بما تجدد ببغداذ ، سير الكتاب مع امرأة ، وجعله في عود أكفاف ، وتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية ، فلما ألح الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر ، وقيل : في ربيع الأول ، سنة خمس وتسعين ومائة ، على ما نذكره إن شاء الله - تعالى - وسماه الناطق بالحق ، ونهى عن ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر ، وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة ، فأتاه بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد في الكعبة ببيعة الأمين والمأمون ، فأحضرهما عنده فمزقهما الفضل .

فلما أتت الأخبار إلى المأمون بذلك قال لذي الرياستين : هذه أمور أخبر الرأي عنها ، وكفانا أن نكون مع الحق .

فكان أول ما دبره ذو الرياستين حين بلغه الدعاء للمأمون وصح عنده - أن جمع الأجناد الذين كان اتخذهم بجنبات الري مع الأجناد الذين كانوا بها ، ومدهم بالأقوات وغيرها ، وكانت البلاد عندهم قد أجدبت ، فأكثر عندهم ما يريدونه ، حتى صاروا في أرغد عيش ، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه .

ثم أرسل إليهم ( طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن أسعد أبا العباس الخزاعي أميرا فيمن ضم إليه ) من قواده وأجناده ، فسار مجدا حتى ورد الري فنزلها ، فوضع المسالح والمواصل ، فقال بعض شعراء خراسان :

رمى أهل العراق ومن عليها إمام العدل والملك الرشيد     بأحزم من نشا رأيا وحزما
وكيدا نافذا مما يكيد     بداهية تأدى خنفقيق
يشيب لهول صولتها الوليد



فأما الأمين فإنه وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل ، وأمره أن يوجه مقدمته إلى ساوة ، ويقيم بهمذان ، وجعل الفضل بن الربيع ، وعلي بن عيسى يبعثان الأمين ويغريانه بحرب المأمون .

ولما بايع الأمين لولده موسى جعله في حجر علي بن عيسى ، وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك ، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك ، وعلى رسائله علي بن صالح المصلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية