انهزام عسكر سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب

ثم كر صلاح الدين راجعا إلى حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب .

وكتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا رائقا فائقا على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه : فإذا قضى التسليم حق اللقاء ، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى وجواري أمور إن قال فيها كثيرا ، فأكثر منه ما قد جرى ، وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا ، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لا يعبد سرا :


ومن الغرائب أن تسير غرائب في الأرض لم يعلم بها المأمول     كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى
والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير ، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير ، ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير ، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير ، ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي ترد به الغصوب ، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب ، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح مباشرين بأنفسنا ، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا ، نحن ووالدنا وعمنا ، فأي مدينة فتحت أو معقل ملك أو عسكر للعدو كسر أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه ؟ فما يجهل أحد صنعنا ، ولا يجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونملك الكرة ، ونتقدم الجماعة ونرتب المقاتلة ، وندبر التعبئة ، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها ، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها . ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع التي كانت هنالك ، وما بسط من العدل ومد من الفضل ، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية ، وغير ذلك بكلام بسيط حسن .

فلما وصلهم الكتاب أساءوا الجواب ، وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره ، وأقبل عليهم في دساكره ، فانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماة في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها ، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة ، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه ، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه حتى قال لهم في جملة ما قال : أنا أقنع بدمشق وحدها ، وأقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل ، وأترك ما عداها من أرض الشام . فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدين كمشتكين إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين ، فقال : ليس لي ذلك ، ولا أقدر عليه . فأبوا الصلح وأقدموا على القتال فجعل جيشه كردوسا واحدا ، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماة وصبر صبرا عظيما ، وجاءه في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخشاه في طائفة من الجيش ، وقد ترجح دسته عليهم ، وخلص رعبه إليهم فولوا هنالك هاربين ، وتولوا منهزمين فأسر من أسر من رءوسهم ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب وقد انعكس عليهم الحال ، وآلوا إلى شر مآل ; فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة ، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع ، على أن المعرة وكفرطاب وبارين له زيادة على ما بيده من أراضي حماة وحمص وبعلبك مع دمشق فقبل ذلك ، وكف عنهم ، وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح ، وأن يدعو له على سائر منابر بلاده ، وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين أن يخرجوا من السجن ، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا مسلما محبورا .

فلما كان بحماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء بأمر الله ومعهم الخلع السنية والتشريفات العباسية والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام ، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأصهاره وأعوانه وأنصاره ، وكان يوما مشهودا واستناب على حماة ابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمودا ، ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين ، كما كانت من قبله لأبيه شيركوه أسد الدين ، ثم إلى بعلبك ثم إلى البقاع ورجع إلى دمشق في ذي القعدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية