عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين

لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين ، وأحكم قواعدها ، وقرر إقطاعاتها وولاياتها فوصل إلى كفر زمار ، أجمع على العود إلى الموصل ، فسار نحوها ، وجعل طريقه على نصيبين ، فوصل إلى كفر زمار ، والزمان شتاء .

فنزلها في عساكره ، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل ، وأخذ غلالها ودخلها ، وإضعاف الموصل بذلك ، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها ، وكان نزوله في شعبان ، وأقام بها شعبان ورمضان ، وترددت الرسل بينه وبين عز الدين ، صاحب الموصل ، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب ، وكان قوله مقبولا عند سائر الملوك لما علموا من صحته .

فبينما الرسل تتردد في الصلح ، إذ مرض صلاح الدين ، مرضا شديدا ، وهو يتجلد ولا يظهر شيئا من التألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال ، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه ، وشاع ذلك في البلاد ، فخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون ، وخاف أهل البر والمؤمنون ، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطباء والأدوية ، فوجده في غاية الضعف ، وأشار عليه بأن يوصي ويعهد ، فقال : ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل صاحب حلب وتقي الدين عمر صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب مصر وهو بها مقيم ، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا - ثم نذر لله تعالى لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الكفار ، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما ، وليجعلن أكبر همه فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده ; وذلك لأنه نقض العهد الذى عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة من تجار مصر ، فأخذ أموالهم ، وضرب رقابهم صبرا بين يديه ، وهو يقول : أين محمدكم ينصركم ؟ وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل ، رحمه الله ، وهو الذي أرشده إلى ذلك وحثه عليه ، حتى عقده مع الله عز وجل ، فشفاه الله عز وجل ، وعافاه مما كان ابتلاه به من ذلك المرض الذي كان فيه ; كفارة لذنوبه ورفع لدرجته ونصرة للإسلام وأهله ، وجاءت البشائر بذلك من كل ناحية ، وزينت البلاد ، ولله الحمد والمنة .

وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر تقي الدين عمر نائب مصر لعمه الناصر ; أن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها ، وأنوارها وآثارها ، وولت العلة ، ولله الحمد ، وأطفئت نارها ، وانجلى غبارها ، وخمد شرارها ، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها ، وعظيمة كفى الله الإسلام أمرها ، ونوبة امتحن الله بها نفوسنا ، فرأى أقل ما عندها صبرها ، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب ، ولا ليوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب ، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب .


نعي زاد فيه الدهر ميما فأصبح بعد بؤساه نعيما     وما صدق النذير به لأني
رأ‍يت الشمس تطلع والنجوما

وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر العافية غضة جديدة ، والعزمة ماضية حديدة ، والنشاط إلى الجهاد ، والجنة مبسوطة البساط ، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط ، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج في سم الخياط . وسار صلاح الدين من كفر زمار عائدا إلى حران ، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب ، فتقرر الصلح ، وحلف على ذلك ، وكانت القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي ، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال .

وأن يخطب له على منابر بلاده ، ويضرب اسمه على السكة ، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له ، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسميتها .

ووصل صلاح الدين إلى حران ، فأقام بها مريضا ، وأمنت الدنيا ، وسكنت الدهماء ، وانحسمت مادة الفتن ، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز ، رحمه الله .

وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران ، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل ، وله حينئذ حلب ، وولده الملك العزيز عثمان ، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته ، فحلف الناس لأولاده ، وجعل لكل منهم شيئا من البلاد معلوما ، وجعل أخاه العادل وصيا على الجميع ، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة .

ولما كان مريضا بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ، وله من الأقطاع حمص والرحبة ، فسار من عنده إلى حمص ، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالا ، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليم البلد إليه إذا مات صلاح الدين ، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها ، فعوفي وبلغه الخبر على جهته .

فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها ، فأصبح ميتا ، فذكروا ، والعهدة عليهم ، أن صلاح الدين وضع عليه إنسانا يقال له الناصح بن العميد ، وهو من دمشق ، فحضر عنده ، ونادمه وسقاه سما .

فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح ، فسألوا عنه ، فقيل : إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين ، فكان هذا مما قوى الظن ، فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئا كثيرا ، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته ، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه .

وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين ، بعد موت أبيه بسنة ، فقال له : إلى أين بلغت من القرآن ؟ فقال : إلى قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه .

التالي السابق


الخدمات العلمية