انهزام الفرنج بحطين

وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

كانت وقعة حطين
التي كانت أمارة ومقدمة وبشارة لفتح بيت المقدس على المؤمنين ، واستنقاذه من أيدي الكافرين وقد أصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر ، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج ، فتواجه هنالك الجيشان وتقابل الفريقان ، وأسفر وجه الإيمان ، واغبر وأقتم وجه الكفران والخسران وذلك عشية يوم الجمعة ، وبات الناس على مصافهم وكان يوما عسيرا على أهل يوم الأحد ، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر في شدة الحر ، وطلعت الشمس على وجوه النصارى وهم من شدة الحر سكارى وما هم بسكارى ، وكان تحت أقدام خيولهم هشيم حشيش ، فأمر السلطان النفاطة ، فرموه فتأجج تحت سنابك خيولهم نارا ، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش ، وحر النار من تحت أرجلهم ، وحر رشق السهام عن القسي القاسية ، فتبارز الشجعان في حومة الوغى ، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة ، فكان النصر من الله عز وجل ، فمنحهم الله أكتاف الكفرة الفجرة ودنا بعضهم من بعض ، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا ، فاقتتلوا ، واشتد القتال ، وصبر الفريقان ، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر ، فقتلوا من خيول الفرنج كثيرا .

هذا القتال بينهم ، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين ، نحو طبرية ، لعلهم يردون الماء .

فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم ، ووقف بالعسكر في وجوههم ، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم ، ويأمرهم بما يصلحهم ، وينهاهم عما يضرهم ، والناس يأتمرون لقوله ، ويقفون عند نهيه .

فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج ، فقاتل قتالا عجب منه الناس . ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه ، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيرا .

فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين ، فاتفق هو وجماعته وحملوا على من يليهم ، وكان المقدم من المسلمين ، في تلك الناحية ، تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين ، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب ، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم . فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقا يخرجون منه ، ففعلوا فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف .

فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه ، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون [ بها ] المسلمين ، على كثرتهم ، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم .

إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم ، فوهنوا لذلك وهنا عظيما ، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها ، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين ، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ، ويحموا نفوسهم به ، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات ، ومنعوهم عما أرادوا ، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم .

وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ، الذي يزعمون أنه الذي صلب عليه المصلوب ، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية ، وكان يوما على الكافرين عسيرا ، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ، ودمغ الباطل وذله ، حتى إنه ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج ، قد ربطهم بطنب خيمة ، وباع بعضهم أسيرا بنعل لبسها في رجله ، وجرت أمور لم يسمع بمثلها ولا وقعت العيون على شكلها ، فلله الحمد دائما حمدا كثيرا طيبا . هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم ، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارسا من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين .

فحكي لي عن الملك الأفضل - ولد صلاح الدين - قال : كنت إلى جانب أبي في ذلك المصاف ، وهو أول مصاف شاهدته ، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي .

قال : فنظرت إليه ، وقد علته كآبة ، واربد لونه ، وأمسك بلحيته ، وتقدم ، وهو يصيح : كذب الشيطان ، قال : فعاد المسلمون على الفرنج ، فرجعوا إلى التل ، فلما رأيت الفرنج قد عادوا ، والمسلمون يتبعونهم ، صحت من فرحي : هزمناهم ! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي ، وفعل مثل ما فعل أولا .

وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل ، فصحت أنا أيضا : هزمناهم ! فالتفت والدي إلي وقال : اسكت ! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة ، قال : فهو يقول لي ، وإذا الخيمة قد سقطت ، فنزل السلطان وسجد شكرا لله تعالى ، وبكى من فرحه .

وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشا ، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه ، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقا ، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض ، فصعد المسلمون إليهم ، فألقوا خيمة الملك ، وأسروهم على بكرة أبيهم ، وفيهم الملك وأخوه ، والبرنس أرناط ، صاحب الكرك ، ولم يكن للفرنج أشد منه عداوة للمسلمين .

وأسروا أيضا صاحب جبيل ، وابن هنفري ، ومقدم الداوية ، وكان من أعظم الفرنج شأنا ، وأسروا أيضا جماعة من الداوية ، وجماعة من الاسبتارية ، وكثر القتل والأسر فيهم ، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحدا ، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحدا ، وما أصيب الفرنج ، منذ خرجوا إلى الساحل ، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن ، بمثل هذه الوقعة .

ولما تمت هذه الوقعة العظيمة والنعمة العميمة الجسيمة ، أمر السلطان بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها ، وجيء بالأسارى تتهادى في قيودها ، فضربت أعناق جماعة من مقدمي الداوية والإسبتارية بين يديه صبرا ، ولم يترك منهم من كان يذكر الناس عنه ذكرا ، ثم جيء بالملوك فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم ، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه ، وتحته أرناط إبرنس الكرك - قبحه الله تعالى - وبين يديه بقية الملوك وعن يساره ، فجيء السلطان بشراب مثلوج من الجلاب ، فشرب ثم ناول الملك فشرب ، ثم ناول ملكهم أرناط فشرب ، فغضب السلطان ، وقال : إنما سقيتك ولم آمرك أن تسقيه ، هذا لا عهد له عندي . ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى أرناط ، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف وقال : نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته . ثم دعاه إلى الإسلام فامتنع ، فقتله وأرسل برأسه إلى الملوك ، وقال : إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلته ، ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والإسبتارية صبرا ، وأراح الله المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين ، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل ، فيقال : إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفا ، وكذلك الأسارى كانوا ثلاثين ألفا ، وكان جملة جيش الفرنج ثلاثة وستين ألفا ، ومن سلم منهم - مع قلتهم - أكثرهم جرحى ، فماتوا ببلادهم بعد رجوعهم ، وممن مات كذلك قومص طرابلس فإنه انهزم جريحا فمات ببلده بعد مرجعه ، لعنه الله ، ثم أرسل برؤساء الأسارى ورءوس أعيان القتلى ، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها ، فدخل بالصليب منكوسا ، فكان يوما مشهودا ، ولله الحمد والمنة . مدح صلاح الدين بسبب انتصار حطين وقد امتدح الشعراء الملك صلاح الدين بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا ، وأطابوا وأطنبوا ، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وكان مقيما بها لمرض ناله - : ليهن المولى أن الله قد أقام به الدين القيم ، وأنه كما قيل : أصبحت مولاي ومولى كل مسلم . وأنه قد أسبغ عليه النعمتين ; الباطنة والظاهرة ، وأورثه الملكين ; ملك الدنيا وملك الآخرة ، كتب المملوك الخدمة ، والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها ، والدموع لم تمسح من خدودها ، وكلما فكر المملوك أن البيع تعود وهي مساجد ، والمكان الذي كان يقال فيه : إن الله ثالث ثلاثة ، يقال اليوم فيه : إنه الواحد . جدد لله شكرا تارة يفيض من لسانه ، وتارة يفيض من أجفانه ، وجزى الله يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه ، والمماليك ينتظرون أمر المولى ، فكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عول على دخول حمام طبرية .


تلك المكارم لا قعبان من لبن وذلك الفتح لا عمان واليمن


وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن

ثم قال : وللألسنة بعد في هذا الفتح سبح طويل وقول جليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية