أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه في الدولة الصلاحية
لما نزه البيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس ، والرهبان والخنازير والقساقيس ، ودخله أهل الإيمان ، ونودي بالأذان وهرب الشيطان وقرئ القرآن ، وطهر المكان ، فكان إقامة أول جمعة فيه في اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فنصب المنبر إلى جانب المحراب المطهر ، وبسطت البسط الرفيعة في تلك العراص الوسيعة ، وعلقت القناديل وتلي التنزيل عوضا عما كان يقرأ من التحريف في الإنجيل ، وجاء الحق وبطلت تلك الأباطيل ، وصفت السجادات وكثرت السجدات ، وتنوعت العبادات ، وأديمت الدعوات ، ونزلت البركات ، وانجلت الكربات ، وأقيمت الصلوات ، ونطق الأذان ، وخرس الناقوس ، وحضر المؤذنون وغاب القسوس ، وطابت الأنفاس ، واطمأنت النفوس ، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس ، وحضر العباد والزهاد والأبدال والأقطاب والأوتاد ، وعبد الواحد ، وكثر الراكع والساجد ، والقائم والقاعد ، وامتلأ الجامع ، وسالت لرقة القلوب المدامع ، وقال الناس : هذا يوم كريم وفضل عظيم وموسم وسيم ، وهذا يوم تجاب فيه الدعوات وتصب البركات وتسيل العبرات وتقال العثرات ، فأذن المؤذنون للصلاة وقت الزوال ، وكادت القلوب تطير من الفرح بتلك الحال ، ولم يكن السلطان إلى تلك الساعة عين خطيبا ، وقد تهيأ لها خلق من العلماء خوفا أن يدعي إليها أحدهم فلا يكون نجيبا ، فبرز للخطباء المرسوم السلطاني الصلاحي ، وهو في قبة الصخرة الغراء ، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا ، فلبس الخلعة السوداء وصعد المنبر ، وقد كساه الله البهاء ، وأكرمه بكلمة التقوى وأعطاه السكينة والوقار والسناء ، فخطب بالناس خطبة عظيمة سنية فصيحة بليغة ، ذكر فيها شرف البيت المقدس ، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات ، وما فيه من الدلائل والأمارات ، وما من الله به على الحاضرين من هذه النعمة التي تعدل الكثير من القربات ، وقد أوردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في " الروضتين " بطولها ، فكان أول ما قال حين تكلم :
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ثم أورد تحميدات القرآن كلها ، ثم قال : الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومديم النعم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولا بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الدين كله ، القاهر فوق عباده فلا يمانع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فلا يدافع ، أحمده على إظفاره وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره ، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره ، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، رافع الشك وداحض الشرك ، وراحض الإفك ، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلا ، إلى سدرة المنتهى ،
عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان ، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان ، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن ، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ، ومكسر الأوثان ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
ثم ذكر الموعظة ، وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين على ما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه كذا وكذا ، فذكر فضائله ومآثره ، وأنه أول القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام ، وصلى فيه بالملائكة المقربين والأنبياء والرسل الكرام ، ومنه كان المعراج إلى السماوات ، ثم عاد إليه ، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق ، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق ، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ، وقد أسس على التقوى من أول يوم .
قلت : ويقال : إن الذي أسسه أولا يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل عليه السلام المسجد الحرام بأربعين سنة . كما جاء في " الصحيحين " ، ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام ، كما ثبت به الحديث في " المسند " و " السنن " ، و " صحيح ابن خزيمة " ، وابن حبان والحاكم وغيرهم ، وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالا ثلاثا ; حكما يصادف حكمه ، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وأنه لا يأتي أحد هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
وذكر الخطيب تمام الخطبتين ، ودعا للخليفة العباسي ، ثم للسلطان الملك الناصر صلاح الدين ، رحمهما الله تعالى ، وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان ، فوعظ الناس وكان وقتا مشهودا وحالا محمودا ، فلله الحمد والمنة . واستمر القاضي محيي الدين بن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات ، ثم قرر السلطان للقدس خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس .
وأمر أن يعمل له منبر ، فقيل له : إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه ، وقال : هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس ، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله ، فأمر بإحضاره ، فحمل من حلب ونصب بالقدس ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة ، وكان هذا من كرامات نور الدين ، وحسن مقاصده ، رحمه الله .
ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه ، وتدقيق نقوشه ، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله ، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، قد ادخر على طول السنين .
فشرعوا في عمارته ، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور ، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها ، فأمر بكشفها .
وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة ، فكانوا يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها ، وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة ، ويجعل في مذبحها ، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى ، فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها .
فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة ، والربعات الجيدة ، ورتب القراء ، وأدر عليهم الوظائف الكثيرة ، فعاد الإسلام هناك غضا طريا ، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، غير صلاح الدين ، رحمه الله ، وكفاه ذلك فخرا وشرفا .