الرحيل عن صور إلى عكا وتفريق العساكر

لما رأى صلاح الدين أن أمر صور يطول رحل عنها ، وهذه كانت عادته ، متى ثبت البلد بين يديه ضجر منه ومن حصاره فرحل عنه ، وكان هذه السنة لم يطل مقامه على مدينة بل فتح الجميع في الأيام القريبة ، كما ذكرناه ، بغير تعب ولا مشقة .

فلما رأى هو وأصحابه شدة أمر صور ملوها ، وطلبوا الانتقال عنها ، ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين ، فإنه هو جهز إليها جنود الفرنج ، وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغير ذلك ، كما سبق ذكره .

كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور ، فصار فيها من سلم من فرسان الفرنج بالساحل ، بأموالهم وأموال التجار وغيرهم ، فحفظوا المدينة وراسلوا الفرنج داخل البحر يستمدونهم ، فأجابوهم بالتلبية لدعوتهم ، ووعدهم بالنصرة ، وأمروهم بحفظ صور لتكون دار هجرتهم يحتمون بها ويلجأون إليها ، فزادهم ذلك حرصا على حفظها والذب عنها .

وسنذكر إن شاء الله ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملك لا ينبغي أن يترك الحزم ، وإن ساعدته الأقدار ، فلأن يعجز حازما خير له من أن يظفر مفرطا مضيعا للحزم ، وأعذر له عند الناس .

ولما أراد الرحيل استشار أمراءه ، فاختلفوا ، فجماعة يقولون : الرأي أن نرحل ، فقد جرح الرجال ، وقتلوا ، وملوا ، وفنيت النفقات ، وهذا الشتاء قد حضر ، والشوط بطين ، فنريح ونستريح في هذا البرد ، فإذا جاء الربيع اجتمعنا وعاودناها وغيرها .

وكان هذا قول الأغنياء منهم ، وكأنهم خافوا أن السلطان يقترض منهم ما ينفقه في العسكر إذا أقام لخلو الخزائن وبيوت الأموال من الدرهم والدينار ، فإنه كان يخرج كل ما حمل إليه منها .

وقالت الطائفة الأخرى : الرأي أن نصابر البلد ونضايقه ، فهو الذي يعتمدون عليه من حصونهم ، ومتى أخذناه منهم انقطع طمع من داخل البحر من هذا الجانب وأخذنا باقي البلاد صفوا عفوا .

فبقي صلاح الدين مترددا بين الرحيل والإقامة ، فلما رأى من يرى الرحيل إقامته أخل بما رد إليه من المحاربة والرمي بالمنجنيق ، واعتذروا بجراح رجالهم ، وأنهم قد أرسلوا بعضهم ليحضروا نفقاتهم والعلوفات لدوابهم والأقوات لهم ، إلى غير ذلك من الأعذار ، فصاروا مقيمين بغير قتال ، فاضطر إلى الرحيل ، فرحل عنها آخر شوال .

وكان أول كانون الأول ، إلى عكا ، فأذن للعساكر جميعها بالعود إلى أوطانهم والاستراحة في الشتاء ، والعود في الربيع ، فعادت عساكر الشرق والموصل وغيرها ، وعساكر الشام ، وعساكر مصر ، وبقي حلقته الخاص مقيما بعكا ، فنزل بقلعتها ، وأسكن ولده الأفضل برج الداوية ، وولى نيابتها عز الدين جرديك ، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها ، فكاد ، ولم يفعل ، وليته فعل ، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي ، ووقف دار الإسبتار نصفين على الفقهاء والفقراء ، وجعل دار الأسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا دارة ، وولى نظر ذلك لقاضيها جمال الدين بن الشيخ أبي النجيب ، وهو في جميع ذلك بآرائه مصيب . ولما فرغ السلطان من هذه الحروب ، وأزال عن المسلمين تلك الكروب ، وعاد إلى دمشق مؤيدا منصورا ، أبهج العيون وسر القلوب وجاءته رسل الملوك بالتهاني من سائر الأقطار والأمصار بالتحف والهدايا التي تبهر الأبصار ، وكتب الخليفة إليه يعتب عليه في أشياء منها ; أنه بعث في بشارة الفتح بحطين مع شاب بغدادي كان وضيعا عندهم ، لا قدر له ولا قيمة ، وأرسل بفتح القدس الشريف مع نجاب ، ولقب نفسه بالملك الناصر مضاهاة للخليفة الناصر ، فتلقى الرسول بالبشر واللطف ، ولم يظهر له إلا السمع والطاعة ، وأرسل يعتذر مما وقع بأن الحرب كانت قد شغلته عن التروي في كثير من الأمور ، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء ، ومع هذا فمهما لقبني به أمير المؤمنين فهو الذي لا يعدل عنه ، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب ، رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية