فتح شقيف أرنون
في سنة خمس وثمانين وخمسمائة ، في ربيع الأول ، سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون ، وهو من أمنع الحصون ، ليحصره ، فنزل صاحب الشقيف ، وهو أرناط صاحب صيدا ، وكان أرناط هذا لمن أعظم الناس دهاء ومكرا ، فدخل إليه واجتمع به ، وأظهر له الطاعة والمودة .
وقال له : أنا محب لك ، ومعترف بإحسانك ، وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك ، فينال أولادي وأهلي منه أذى ، فإنهم عنده ، فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده ، وحينئذ أحضر أنا وهم عندك ، ونسلم الحصن إليك ، ونكون في خدمتك ، نقنع بما تعطينا من إقطاع فظن صلاح الدين صدقه ، فأجابه إلى ما سأل ، فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة .
وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد ، وهو قلق مفكر ، لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند ، صاحب أنطاكية ، فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير في من معه من عساكره ، ومن يأتي من بلاد المشرق ، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة .
وكان أيضا منزعج الخاطر ، كثير الهم ، لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة صور ، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر ، وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه ، بعد فتح القدس ، قد اصطلح هو والمركيس ، بعد اختلاف كان بينهما ، وأنهم قد اجتمعوا في خلق ، لا يحصون ، فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها .
فكان هذا وأشباهه مما يزعجه ، ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه ، إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف .
وكان أرناط ، في مدة الهدنة ، يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه ، وكان صلاح الدين يحسن الظن ، وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر ، وإن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور ، وحينئذ يبدي فضيحته ، ويظهر مخالفته لا يقبل فيه .
فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط ، وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام . فقال له في معنى تسليم الشقيف ، فاعتذر بأولاده وأهله ، وأن المركيس يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى .
فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه ، فأخذه وحبسه ، وأمره بتسليم الشقيف ، فطلب قسيسا ، ذكره ، ليحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه ، فأحضروه عنده ، فساره بما لم يعلموا ، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف ، فأظهر أهله العصيان ، فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه ، وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه ، وجعل ، عليه من يحفظه ، ويمنع عنه الذخيرة والرجال .