قال استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى
[ ص: 88 ] حينئذ وبه كما قيل يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين
ما منعك ألا تسجد المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى
ما منعك أن تسجد وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه :
لئلا يعلم أهل الكتاب أي ليعلم وهي في ذلك كما قال غير واحد لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه .
واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه قال
nindex.php?page=showalam&ids=14589الشهاب : والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في
غير المغضوب عليهم ولا الضالين وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به ومن هنا قالوا : إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل : إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد وجعله السكاكي مجازا على الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد وليس بين الجعلين كثير فرق .
وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه والمنع في الآية من الثاني أي ما حماك عن عدم السجود
إذ أمرتك بالسجود و ( إذ ) ظرف لتسجد وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى :
فقعوا له ساجدين وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ وقال آخرون إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه :
إذ أمرتك ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر وفي حكاية التوبيخ ها هنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى :
يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين وفي سورة ص بقوله سبحانه :
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل .
قال استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل فماذا قال اللعين عند ذلك فقيل : قال
أنا خير منه هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير وفيه دعوى شيء بين الاستلزام للمقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العليين .
وقوله تعالى حكاية عنه :
خلقتني من نار وخلقته من طين (12) تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه عليه السلام وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة
[ ص: 89 ] الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشرف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل على من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين وأيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع .
إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل
ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرف بمادته وعنصره يشرف بفاعله وغايته وصورته وهذا الشرف في
آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاطا لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى وإلى هذا أشار
ظافر الإسكندري بقوله .
أنت المراد بنظم كل قصيدة بنيت على الإفهام في تبجيله
كسجود أملاك السماء لآدم وسجودهم لله في تأويله
ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم وقال بعضهم : إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم بالقياس واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس .
وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية
nindex.php?page=showalam&ids=16138والديلمي عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال : أنا خير منه إلخ قال
جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا .
وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق
آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنار لما تركب منهما ما تركب وعلى أن إبليس ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة قيل : لعل إضافة خلق
آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع .