صفحة جزء
فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام، ولعلها كانت من مبادئ الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم: إن القصة غير واحدة، فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها، وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.

وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة، فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أن الله تعالى فتح عليهم بابا من جهنم، فأرسل عليهم حرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا، فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي، وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا ما نقل عن عبد الله البجلي قال: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين، وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن، فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها:


كلمن قد هد ركني ... هلكه وسط المحلة     سيد القوم أتاه الح
... تف نار تحت ظلة     جعلت نار عليهم
... دارهم كالمضمحله

اللهم إلا أن يقال: إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال: إن هذا الخبر مما ليس له سند يعول عليه.

فأصبحوا في دارهم جاثمين تقدم نظيره الذين كذبوا شعيبا استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم:

لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: كأن لم يغنوا فيها أي: لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غني بالمكان يغنى غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى ضد الفقر، كما في قول حاتم:


غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ...     فكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ...     غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر


[ ص: 7 ] وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غني بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غني بالمكان: طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو: ( الله يبسط الرزق ) والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده، دون شعيب عليه السلام ومن معه،

التالي السابق


الخدمات العلمية