صفحة جزء
فألقى عصاه وكانت كما روى ابن المنذر وابن أبي حاتم من عوسج.

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز.

وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة، أنه قال: ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام، أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا، فإذا هي ثعبان أي: حية ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات. وقال آخرون: إنه الحية مطلقا.

وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر مبين أي: ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا، فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك.

وروي عن ابن عباس والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا، وارتفعت من الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب عن سريره هاربا وأحدث، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وفي أخرى أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها، وأنها حملت على الناس، فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى، أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها، وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها فعادت عصا كما كانت.

وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة، وقيل: كان طولها ثمانين ذراعا، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ما هنا وقوله سبحانه: كأنها جان بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة، لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل: إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى [ ص: 21 ] تحقيق ذلك. والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب؛ إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الإعجاز، ولم يكن لذكر (مبين) معنى مبين، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو: انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا،

التالي السابق


الخدمات العلمية