ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه وتعالى: إنما المؤمنون إلخ. إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي: فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا، والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب
ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وجماعة عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي أنه قال في الآية: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة، رضي الله تعالى عنها.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=12328أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة.
وقرئ: (وجلت) بفتح الجيم ومضارعه يجل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل ويأجل وهي لغات أربع حكاها
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه، وقرأ
عبد الله: (فرقت) أي: خافت.
وإذا تليت عليهم آياته أي: القرآن كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس. زادتهم إيمانا أي: تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن
الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال
محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة
[ ص: 166 ] على ما ذهب إليه
القلانسي وجماعة من السلف، وبما رواه الفقيه
أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن
محمد بن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن
فارس بن مردويه، عن
محمد بن الفضل بن العابد عن
nindex.php?page=showalam&ids=17329يحيى بن عيسى عن
أبي مطيع عن
حماد بن سلمة عن
أبي المهزم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر».
وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك، والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت، وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانت الشريعة غير تامة، والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لإمكان الاطلاع عليها في غيره من العصور، وبأن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب، فإن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فيما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا؛ لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما
أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل، nindex.php?page=showalam&ids=17336ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري، nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي، وحاتم الرازي، nindex.php?page=showalam&ids=13053وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، والعقيلي، وابن عدي، nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني، وغيرهم.
وأما
أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب، واسمه
يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه
شعبة بن الحجاج، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي: متروك، وقد اتهمه
شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.
وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال: إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك، وذهب جماعة منهم
الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعني بما
[ ص: 167 ] روي
عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما قال: «قلنا: يا رسول الله، إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار».
واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال، وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب
الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مقل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير، nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم، nindex.php?page=showalam&ids=11868وأبو الشيخ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله
وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل
وعلى ربهم يتوكلون أي: يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.
وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية.