صفحة جزء
وأعدوا لهم خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم كما يقتضيه السباق أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده ما استطعتم من قوة أي : من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان ، وأطلق عليه القوة مبالغة ، وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن له في بدر استعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تفسير القوة بأنواع الأسلحة ، وقال عكرمة : هي الحصون والمعاقل ، وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل .

وأخرج أحمد ، ومسلم ، وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال : " سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول [ ص: 25 ] وهو على المنبر : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا " والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى بها فهو من قبيل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " الحج عرفة " .

وقد مدح عليه الصلاة والسلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث ، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام " كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة؛ انتضالك بقوسك وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك فإنها من الحق " وجاء في رواية أخرجها النسائي وغيره " كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال؛ مشي الرجل بين الغرضين، وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة " وجاء أيضا " انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إلي إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة؛ صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى " .

وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واشتد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال، فالذي أراده والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين ، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام، ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى ، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) .

ومن رباط الخيل الرباط قيل : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال : ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا .

واعترض بأنه يلزم على ذلك إضافة الشيء لنفسه .

ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقا إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي ، وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب ، ومصدر رابطت أي لازمت فأضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال : عين الشمس وعين الميزان ، قيل : ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا ، وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية ، وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب ، وعن عكرمة تفسيره بإناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريبا بعيد ، وذكر ابن المنير أن المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا ، وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله :


ولقد علمت على تجنبي الردا أن الحصون الخيل لا مدر القرى

وقال :


وحصني من الأحداث ظهر حصاني

.

وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " .

وأخرج أحمد عن معقل بن يسار ، والنسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد النساء من الخيل ، وميز صلى الله تعالى عليه وسلم بعض أصنافها على بعض ، فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه " التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى " . وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : يمن الخيل في شقرها . وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله [ ص: 26 ] صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الشكال من الخيل " واختلف في تفسيره؛ ففي النهاية: الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا وقيل : هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة ، وقيل : هو أن تكون إحدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين ، وإنما كرهه عليه الصلاة والسلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة ، ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة ، وقيل : إذا كان مع ذلك أغرب زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى .

ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال : إنه يخصص عمومه وأن حديث التفاؤل غير ظاهر ، والظاهر التشاؤم وقد جاء: " إنما الشؤم في ثلاث؛ في الفرس والمرأة والدار " وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها ، لكن قال الجلال السيوطي في فتح المطلب المبرور : إن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد اختلف العلماء فيه: هل هو على ظاهره أو مؤول؟ والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى .

ولا يعارضه ما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ذكر الشؤم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : " إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس " فإنه ليس نصا في استثناء نقيض المقدم وإن حمله عياض على ذلك لاحتمال أن يكون على حد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب " وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والاختصاص ونظيره في ذلك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا مخطور في اعتقاد ذلك بعد اعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى : وقرأ الحسن ( ومن ربط الخيل ) بضم الباء وسكونها جمع رباط ، وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للإيذان بفضلها على سائر أفرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام ( ترهبون به ) أي تخوفون به ، وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن يعقوب أنه قرأ ( ترهبون ) بالتشديد .

وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ( تخزون ) والضمير المجرور لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسب ، والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به ، أو من الموصول كما قال أبو البقاء ، أو من عائدة المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به ، وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على إرهاب المسلمين بذلك ( عدو الله ) المخالفين لأمره سبحانه ( وعدوكم ) المتربصين بكم الدوائر ، والمراد بهم على ما ذكره جمع أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة ، وقيل : المراد هم وسائر كفار العرب ( وآخرين من دونهم ) أي : من غيرهم من الكفرة ، وقال مجاهد : هم بنو قريظة ، وقال مقاتل : وابن زيد : هم المنافقون ، وقال السدي : هم أهل فارس .

وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره [ ص: 27 ] فرس عتيق " وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ، واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه ، وقوله سبحانه : لا تعلمونهم أي لا تعرفونهم بأعيانهم الله يعلمهم لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك، وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهو المراد هنا كما عرفت، ولذا تعدى إلى مفعول واحد ، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر .

نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناء على إطلاق العارف عليه تعالى في " نهج البلاغة " وفيه بحث ، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله ، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف ، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وقال : إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا وهو مسلم نظرا إلى تفسيره ، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه تردد .

وما تنفقوا من شيء جل أو قل في سبيل الله وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الإعداد السابق والجهاد دخولا أوليا ، وبعضهم خصص اعتبارا للمقام ( يوف إليكم ) أي يؤدى بتمامه والمراد يؤدى إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد ( وأنتم لا تظلمون ) بترك الإثابة أو بنقص الثواب ، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر .

التالي السابق


الخدمات العلمية