هذا ومن باب الإشارة في الآيات :
عفا الله عنك لم أذنت لهم إلخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب ، ولو قال له : لم أذنت لهم عفا الله عنك لذاب ، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار ، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الإذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على
نوح عليه السلام قوله :
إن ابني من أهلي بقوله سبحانه :
قال يا نوح إنه ليس من أهلك إلى قوله تبارك وتعالى :
إني أعظك أن تكون من الجاهلين ومن ذلك يعلم الفرق وهو لعمري غير خفي بين مقام الحبيب ورتبة الصفي ، وقد قيل : إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه ، وأنشد :
ما حطك الواشون عن رتبة كلا وما ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا
وقال الآخر :
في وجهه شافع يمحو إساءته عن القلوب ويأتي بالمعاذير
وقال :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
[ ص: 141 ] وقوله سبحانه :
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان ، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟ وقال الواسطي : إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن، وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون ، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان :
لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إلخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة فقد قيل :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
(
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ) إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها، غاية الأمر أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال، وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى ، وقوله تعالى : (
ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه ، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=670140وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وقال
محمد بن الفضل : من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل، ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح ، ولذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=676256كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال : أرحنا يا بلال، وقوله تعالى :
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها ، وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت ، وقوله سبحانه :
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله إلخ فيه إرشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين ، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء ، فكل ما فعل المحبوب محبوب .
رؤى أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره ، فقيل له في ذلك فقال : وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا ، ولله تعالى در من قال :
أنا راض بالذي ترضونه لكم المنة عفوا وانتقاما
ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه :
إنما الصدقات للفقراء إلخ ، والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين (
والمساكين ) هم الذين سكنوا إلى جمال الأنس ونور القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب ، وأنشد :
مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم فهم أنفس عاشوا بغير قلوب
(
والعاملين ) هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط ، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له ، وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه ، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى (
والمؤلفة قلوبهم ) هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال
وفي الرقاب [ ص: 142 ] هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود، فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة ، وأخرى في سواحل بحر القرب ، وطورا هدف سهام القهر ، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك، وقليل ما هم :
أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر
(
والغارمين ) هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية ، والمعرفة غريم لا يقضي دينه (
وفي سبيل الله ) هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات (
وابن السبيل ) هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل الولايات
فريضة من الله على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي (
والله عليم ) بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا (
حكيم ) حيث أوجب لهم ما أوجب ، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكفلة بالجمع والمنع
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه : ( قل ) هو
أذن خير لكم أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير ، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها ، أي أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره ، ثم بين ذلك بقوله تعالى :
يؤمن بالله إلخ ، وقد غرهم -قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا- كرم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منهم بهم ، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة ، وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال : الفطن المتغافل وأنشد :
وإذا الكريم أتيته بخديعة فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا إن الكريم لفضله متخادع
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي : هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد
يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه :
وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشعون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات
نسوا الله لاحتجابهم بما هم فيه ( فنسيهم ) من رحمته وفضله
ولهم عذاب مقيم وهو عذاب الاحتجاب بالسوي (
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ) هي جنات النفوس
ومساكن طيبة مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال
ورضوان من الله أكبر إشارة إلى جنات الصفات ( ذلك ) أي : الرضوان
هو الفوز العظيم لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه :
ومساكن طيبة إشارة إلى الرؤية، فإن المحب لا تطيب له الدار من غير رؤية محبوبه :
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم إذا غبتم عنها ونحن حضور
ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف وسيادة كان أكبر من
[ ص: 143 ] هاتيك الحنات والمساكن .
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا أرى كل من في الكون لي يتبسم
نسأل الله تعالى رضوانه وأن يسكننا جنانه .