وقوله سبحانه:
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه إثر بيان بطلان ما اقترحوه على أتم وجه وصدر بالأمر المستقل إظهار الكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه ومفعول المشيئة محذوف ينبئ عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلا ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم إدرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم
ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لانتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة والسلام للقرآن وإدراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى .
[ ص: 86 ] وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث اقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الإعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء ولم يظهر وجه الاقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبئ عن استناد الإدراء إليه سبحانه إعلام بأنه لا دخل له عليه الصلاة والسلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضا وفي رواية
أبي ربيعة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير (ولأدراكم) بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب (لو) أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلى الله تعالى عليه وسلم أشد انتفاء وأقوى ولعل (لا) في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا فهي لا تقع في جواب (لو) فلا يقال: لو قام زيد لا قام عمرو بل ما قام ومن هنا نص
nindex.php?page=showalam&ids=14529السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين أنهم قرأوا (ولا أدرأتكم) بإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم كالفعل السابق والأصل ولا أدريتكم فقلبت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفا وهي لغة
بلحرث بن كعب وقبائل من
اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك
قطرب عن
عقيل
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر وغيرهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن أنه قرأ (ولا أدرأتكم) بهمزة ساكنة فقيل: إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل: إنها مبدلة من الياء ابتداء كما يقال في لبيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال: أدرأته أي جعلته دارئا أي دافعا والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وقرئ (ولا أدراكم) بالهمز وتركه أيضا مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ (ولا أنذرتكم به)
فقد لبثت فيكم عمرا نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز وجل حسبما مر آنفا واللبث الإقامة ونصب (عمرا) على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة وقيل: هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر وهو بضم الميم وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش بسكونها للتخفيف والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبرا بأقوالي وأفعالي
من قبله أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله ورجوع الضمير للتلاوة ليس بشيء لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع
أفلا تعقلون 16 أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإن ذلك غير خاف على من له عقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة
[ ص: 87 ] للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع
العرب واحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي تنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لا يبقى عنده اشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم إفضاله هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لا يخفى على المتأمل
وقيل: إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصاره صلى الله تعالى عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا بما يلائم ذلك من أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وافتراء ألا تلاحظونه أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وأن ما أتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين انتهى
وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلى الله عليه وسلم غير قادر على الإتيان بمثله على أنه بعد لا يخلو عن مقال فتأمل،