ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم، ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي، وللإشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه، فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها، فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله تعالى عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا، فنزلت، والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب ، ومنه طريق ملول أي مسلوك معلوم، كما نقله
nindex.php?page=showalam&ids=13696الأزهري، ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد تطلق على الباطل، كـ(الكفر ملة واحدة)، ولا تضاف إليه سبحانه، فلا يقال: ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقا، لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد، ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى
دينا قيما ملة إبراهيم وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا ويضاف إلى الله تعالى، وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة، نظرا إلى الأصل، على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على الباطل أيضا، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد، سواء كانت منصوصة من الشارع، أو لا، لكنها راجعة إليه، والنسخ والتبديل يقع فيها، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا، قاله بعض المحققين : ووحدت الملة، وإن كان لهم ملتان للإيجاز، أو لأنهما يجمعهما الكفر، وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم، بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه
قل إن هدى الله هو الهدى فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم، ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم
[ ص: 372 ] حق، وغيره باطل، فأجيبوا بالقصر القلبي، أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهدى الله تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى، وما يدعون إليه ليس بهدى، بل هوى على أبلغ وجه، لإضافة الهدى إليه تعالى، وتأكيده (بإن)، وإعادة الهدى في الخبر على حد: شعري شعري، وجعله نفس الهدى المصدري، وتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها، أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية، أو النصرانية، وأن الاهتداء فيهما، وقيل : يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه، ويطمعونه، وليس بجواب،
ولئن اتبعت أهواءهم أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم، وهي التي عبر عنها فيما قبل بالملة، وكان الظاهر: ولئن اتبعتها، إلا أنه غير النظم، ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم، وأن بعضهم يكفر بعضا.
بعد الذي جاءك من العلم أي المعلوم، وهو الوحي، أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه، ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره،
ما لك من الله من ولي ولا نصير جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة، ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل : إنه جواب له، ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط، وتأويل الجملة الاسمية بالفعلية الاستقبالية، أي: ما يكون لك، وهو تعسف، إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه، وقيل : إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام، وإن الشرطية لأحدهما لفظا، وللآخر معنى، وهو كما ترى، والخطاب أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال، لأنه خلاف ما علم صحته، فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي، ولا نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضا من المبالغة في الإقناط ما لا يخفى، وقيل : الخطاب هناك، وهنا، وإن كان ظاهرا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك،