هذا ومن باب الإشارة في الآيات
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوى ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك
قل الله أسرع مكرا بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري
إن رسلنا يكتبون ما تمكرون في ألواح الملكوت
هو الذي يسيركم في البر والبحر أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات وقيل: يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات
[ ص: 123 ] حتى إذا كنتم في الفلك أي فلك العناية الأزلية
وجرين بهم بريح طيبة وهي ريح صبا وصاله سبحانه
وفرحوا بها لإيذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الأنس ومرابع القدس:
ألا يا نسيم الريح ما لك كلما تقربت منا زاد نشرك طيبا أظن سليمى خبرت بسقامنا
فأعطتك رياها فجئت طبيبا
جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدوم لهم وصال ولله در من قال:
فبتنا على رغم الحسود وبيننا شراب كريح المسك شيب به الخمر
فوسدتها كفي وبت ضجيعها وقلت لليلي طل فقد رقد البدر
فلما أضاء الصبح فرق بيننا وأي نعيم لا يكدره الدهر
وظنوا أنهم أحيط بهم أي أنهم من الهالكين في تلك الأمواج
دعوا الله مخلصين له الدين بالتبري من غير الله تعالى قائلين
لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين لك بك
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية وذلك مثل ما عر
الحلاج وأضرابه ثم إنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا:
يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم أي أنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا، وقال
ابن عطاء في الآية (حتى إذا ركبوا) مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم
جاءتها ريح عاصف أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم
وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم
دعوا الله مخلصين له الدين حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه
فلما أنجاهم أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى .
وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم ويشكل أمر الوعيد المنبئ به
فننبئكم إلخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش وانظر هل يصح أن يقال: إن الأمر من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين؟ ثم إنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا:
كماء أنزلناه إلخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والأنس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله:
قف بالديار فهذه آثارهم نبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بهنا أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقت من تهوى فعز الملتقى
[ ص: 124 ] والله يدعو إلى دار السلام وهو العالم الروحاني السليم من الآفات
ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة وقد يقال: يدعو الجميع إلى داره ويهدي خواص العارفين إلى وصاله أو يدعو السالكين إلى الجنة ويهدي المجذوبين إلى المشاهدة
للذين أحسنوا وهم خواص الخواص
الحسنى وهي رؤية الله تعالى
وزيادة وهي دوام الرؤية أو للذين جاءوا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي، المثوبة الحسنى من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل وقد يقال: الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض
ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة
أولئك أصحاب الجنة التي تقتضيها أفعالهم
هم فيها خالدون ثم ذكر سبحانه حال الذين أساءوا بقوله جل شأنه:
والذين كسبوا السيئات إلخ وأشار إلى أنه عكس حال أولئك الكرام
ويوم نحشرهم جميعا في المجمع الأكبر (ثم نقول للذين أشركوا منهم) وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة
مكانكم أنتم وشركاؤكم قفوا جميعا وانتظروا الحكم
فزيلنا بينهم أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم
وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة
فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال
هنالك أي في ذلك الموقف
تبلو كل نفس أي تذوق وتختبر
ما أسلفت في الدنيا
وردوا إلى الله مولاهم الحق المتولي لجزائهم بالعدل والقسط
وضل عنهم ما كانوا يفترون من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة، ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح والحي عندهم العارف والميت الجاهل
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل لهم أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه من اللوح المحفوظ
وتفصيل الكتاب الذي هو الأم أي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث إنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي بنيت عليها وكان الحري بهم التثبت والتدبر
[ ص: 125 ] والله تعالى ولي التوفيق