[ ص: 11 ] ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب عطف على
وإن الذين بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته، والمراد من الموصول الكفار من ( أولئك ) بدليل الجواب، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد، مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله
بكل آية وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق، واللام موطئة لقسم محذوف
ما تبعوا قبلتك جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع، فكيف إذا كان كترك الفاء ههنا، فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاء، وهذا تسلية للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن قبولهم الحق، والمعنى أنهم ما تركوا
قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا - وإن أتيت بكل حجة - فاندفع ما قيل: كيف حكم بأنهم لا يتبعون، وقد آمن منهم فريق، واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين، أو حكم على الكل دون الأبعاض، فإنه تكلف مستغنى عنه، وإضافة القبلة إلى ضميره – صلى الله تعالى عليه وسلم -؛ لأن الله تعالى تعبده باستقبالها
وما أنت بتابع قبلتهم أي: لا يكون ذلك منك، ومحال أن يكون، فالجملة خبرية لفظا ومعنى، سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد، وقطع تمني أهل الكتاب، فإنهم قالوا: يا
محمد، عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم - لعنهم الله تعالى - ، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا، وقيل: إنها خبرية لفظا إنشائية معنى، ومعناها النهي؛ أي: لا تتبع قبلتهم، أي: داوم على عدم اتباعها، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة؛ إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة؛ لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان، وحسن ذلك المقابلة؛ لأن قبله
ما تبعوا قبلتك وقد يقال : إن الإفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل
بيت المقدس وعيسى - عليه السلام - لم يصل جهة الشرق حتى رفع، وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم، ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق، واعتذروا بأن
المسيح - عليه السلام - فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء، وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره، ولهذا كان مولد
المسيح شرقا، كما يشير إليه قوله تعالى :
إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا واستقبل
المسيح حين صلب – بزعمهم - الشرق، وقيل: إن بعض رهبانهم قال لهم : إني لقيت
عيسى - عليه الصلاة والسلام - فقال لي: "إن للشمس كوكبا أحبه يبلغ سلامي في كل يوم، فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم، فصدقوا وفعلوا"، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق، وذهب
ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله - تعالى - بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فاجتهدوا، وجعلوا الشرق قبلة، وكان
عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا
بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع اجتهدوا، فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة، وليس في التوراة الأمر بذلك، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم
بالشام قرب
بلدة نابلس، وهذان القولان - إن صحا - يشكل عليهما القول بأن عادته - تعالى - تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه: كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين، وتأكيد نفيها
[ ص: 12 ] بالباء، وفعل ذلك اعتناء بما تقدم
وما بعضهم بتابع قبلة بعض أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية، وفي ذلك بيان لتصلبهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك، بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم، مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشئ عن فرط العناد وتسلية للرسول – صلى الله تعالى عليه وسلم -
ولئن اتبعت أهواءهم أي: على سبيل الفرض، وإلا فلا معنى لاستعمال (إن) الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى، وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.
من بعد ما جاءك من العلم أي: المعلوم الذي أوحى إليك بقرينة إسناد المجيء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق
إنك إذا لمن الظالمين أي: المرتكبين الظلم الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر (القبلة) وفيها وجوه من التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام الموطئة له، و(إن) الفرضية، و(إن) التحقيقية، و(اللام) في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، و(إذا) الجزائية، وإيثار ( من الظالمين ) على (ظالم) - أو الظالم - لإفادته أنه مقرر محقق، وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم، وإيقاع الاتباع - على ما سماه (هوى) – أي: لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس العلم وعد أيضا من ذلك، عده واحدا ( من الظالمين ) مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية، ولو جعل كنت في
كنت عليها بمعنى (صرت) لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق، وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء، وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.