الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه مبتدأ وخبر، والمراد بهم العلماء لأن (العرفان) لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ولأن (أوتوا) يستعمل فيمن لم يكن له قبول، و ( آتينا ) أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول، أو ( من الظالمين ) فتكون الجملة حالا من الكتاب أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا (بأعني) أو رفعا على تقديرهم، وضمير يعرفونه لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره لدلالة قوله تعالى:
كما يعرفون أبناءهم عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة ( الأبناء ) دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي (غاية الأمر) أن يكون ههنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له - عليه الصلاة والسلام - من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلى إلى القبلتين، كأنه قال: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وأجيب بأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإن خوطب في الكلام الذي في شأن ( القبلة ) مرارا، لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه؛ لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر ( القبلة ) وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن - ولذا لم تعطف - فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال - ولم يحسن ذلك
[ ص: 13 ] الحسن - ودليل الاستطراد ( ولكل وجهة ) نعم إن قيل: بمجرد الجواز، فلا بأس به؛ إذ هو محتمل، ولعله الظاهر بالنظر الجليل، وقيل: الضمير - للعلم - المذكور بقوله تعالى:
من بعد ما جاءك من العلم أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك؛ لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه، فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة، وأن التخصيص بـ ( أهل الكتاب ) يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من ( الكتاب ) ، وقد أخبر - سبحانه - عن ذكر نعته - صلى الله تعالى عليه وسلم - في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات، فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما ( والكاف ) في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف؛ أي: ( يعرفونه ) بالأوصاف المذكورة في ( الكتاب ) بأنه النبي الموعود؛ بحيث لا يلتبس عليهم عرفان مثل ( عرفانهم أبناءهم ) بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية، في أن كلا منهما يتعذر الاشتباه فيه، والمراد ( بالأبناء ) الذكور؛ لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكدا من التشبيه بالأنفس؛ لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية ( بخلاف الأبناء )، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي
عن nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - : "أنا أعلم به مني بابني"، فقال له nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله تعالى عنه - : "لم؟" قال : "لأني لست أشك بمحمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت"، فقبل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله تعالى عنه – رأسه. فمعناه: أني لست أشك في نبوته - عليه الصلاة والسلام - بوجه، وأما ولدي فأشك في بنوته، وإن لم أشك بشخصه، وهو المشبه به في الآية، فلا يتوهم منه أن ( معرفة الأبناء ) لا تستحق أن يشبه بها؛ لأنها دون المشبه للاحتمال، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به - وإن لم يكن أقوى - و ( معرفة الأبناء ) أشهر من غيرها، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة ( الأبناء ) إليهم مطلقا، سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره
ابن سلام كونه ابنا له في الواقع
وإن فريقا منهم وهم الذين لم يسلموا.
ليكتمون الحق الذي يعرفونه
وهم يعلمون 146 جملة حالية. و يعلمون إما منزلة منزلة اللازم، ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق، وأنه لا يليق بأهل العلم، أو المفعول محذوف؛ أي ( يعلمونه ) فيكون حالا مؤكدة؛ لأن لفظ ( يكتمون الحق ) يدل على علمه؛ إذ ( الكتم ) إخفاء ما يعلم، أو يعلمون عقاب الكتمان، أو أنهم يكتمون فتكون مبينة، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم، واستثناء ( من آمن ) وأظهر علمه عن حكم الكتمان.