( ومن باب الإشارة ) .
المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة
تلك آيات علامات
الكتاب الجامع الذي هو الوجود المطلق
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل وقيل : النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبقة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه وقيل : رفع سماوات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها
ثم استوى على العرش بالتأثير والتقويم وقيل : عرش القلب بالتجلي
وسخر الشمس شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية
والقمر قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات
كل يجري لأجل مسمى وهو كماله بحسب الفطرة
يدبر الأمر في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادي
يفصل الآيات في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات
لعلكم بلقاء ربكم عند مشاهدة آيات التجليات
توقنون عين اليقين .
وقال
ابن عطاء : يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه
وهو الذي مد الأرض أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة
وجعل فيها رواسي المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها ( أنهارا ) من علوم الحقائق
ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة
يغشي الليل النهار تجلي الجلال وتجلي الجمال
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون في آيات الله تعالى قال
أبو عثمان : الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير وقيل : تصفيته لوارد الفوائد وقيل : الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر
وفي الأرض قطع متجاورات فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين وقيل : في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم ( وفيها جنات من أعناب ) أي أعناب العشق
وزرع أي زرع دقائق المعرفة
ونخيل أي نخل الإيمان
صنوان في مقام الفرق
وغير صنوان في مقام الجمع وقيل : صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه
يسقى بماء واحد وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق
ونفضل بعضها على بعض في الأكل في الطعم الروحاني وقيل : أشير أيضا إلى أن في أرض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم
يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات
[ ص: 136 ] والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا
وإن تعجب فعجب قولهم بعد ظهور الآيات
أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى .
وقيل : إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري كذلك وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والأعراض كلها شؤونه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن وأكثر الناس ينكرون على
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري قوله بتجدد الأعراض والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك ما يقوله بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا
أولئك الذين كفروا بربهم فلم يعرفوا عظمته سبحانه
وأولئك الأغلال في أعناقهم فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى النظر في الآيات
وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لعظم ما أتوا به
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة بمناسبة استعدادهم للشر
وقد خلت من قبلهم المثلات عقوبة أمثالهم
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم
وإن ربك لشديد العقاب لمن رسخت فيه
ويقول الذين كفروا لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة
لولا أنزل عليه آية تشهد له صلى الله عليه وسلم بذلك
إنما أنت منذر ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم
ولكل قوم هاد هو الله تعالى وقيل : لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق
الله يعلم ما تحمل كل أنثى فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد
وما تغيض الأرحام أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها
وما تزداد بالتزكية وبركة الصحبة
وكل شيء من الكمالات
عنده سبحانه
بمقدار معين على حسب القابلية
سواء منكم من أسر القول في مكمن استعداده
ومن جهر به بإبرازه إلى الفعل
ومن هو مستخف بالليل ظلمة ظلمه نفسه
وسارب بالنهار بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جن القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها إياه
إن الله لا يغير ما بقوم من النعم الظاهرة أو الباطنة
حتى يغيروا ما بأنفسهم من الاستعداد وقوة القبول قال
النصر آبادي : إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام وعن بعض السلف أنه قال : إن الفأرة مزقت خفي وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر : .
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال إذ الكل تحت قهره سبحانه قال
القاسم : إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم ولله تعالى در من قال : .
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
[ ص: 137 ] هو الذي يريكم البرق أي برق لوامع الأنوار القدسية
خوفا خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه
وطمعا طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه
وينشئ السحاب الثقال بماء العلم والمعرفة وقيل : يري المحبين برق المكاشفة وينشئ للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة وأنشدوا
للشبلي : .
أظلت علينا منك يوما غمامة أضاءت لنا برقا وأبطأ رشاشها
فلا غيمها يصحو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها
وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي وأنشدوا : .
ما كان ما أوليت من وصلنا إلا سراجا لاح ثم انطفى
وذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا برقي وأطال الكلام في ذلك مخالفا لكبار السادة الصوفية كالشيخ
محيي الدين قدس سره وغيره والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم
ويسبح الرعد أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبسا
بحمده وإثبات ما ينبغي له عز شأنه
والملائكة وتسبح الملائكة القوى الروحانية
من خيفته من هيبة جلاله جل جلاله
ويرسل الصواعق هي صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلي
فيصيب بها من يشاء فيحرقه عن بقية نفسه وفي الخبر إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال
ابن الزنجاني : الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم وجعل
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هذا من بدع المتصوفة وكأني بك تقول : إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد وقد نص المحققون من
الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى ولعلك تقول : كان الأولى مع هذا ترك ذلك فنقول : قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت
وهم يجادلون في الله بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته
وهو سبحانه
شديد المحال في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله : .
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار
له دعوة الحق أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه
والذين يدعون الأصنام
لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة
وما دعاء الكافرين المحجوبين
إلا في ضلال أي ضياع لأنهم لا يدعون إلا له الحق وإنما يدعون إلها توهموه ونحتوه في خيالهم
ولله يسجد ينقاد
من في السماوات والأرض من الحقائق والروحانيات
طوعا وكرها شاؤوا أو أبوا
وظلالهم هياكلهم
بالغدو والآصال أي دائما وقيل : يسجد من في السماوات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرها
[ ص: 138 ] وقيل : الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال
أنزل من السماء من سماء روح القدس
ماء أي ماء العلم فسالت أودية أي أودية القلوب
بقدرها بقدر استعدادها
فاحتمل السيل زبدا من خبث صفات أرض النفس
رابيا طافيا على ذلك
ومما يوقدون عليه في النار نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق
ابتغاء حلية طلب زينة النفس لكونها كمالات لها
أو متاع من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما
زبد خبث
مثله كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس
فأما الزبد فيذهب جفاء منفيا بالعلم
وأما ما ينفع الناس من المعاني الحقة والفضائل الخالصة
فيمكث في الأرض أرض النفس وقال بعضهم : إنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الأنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية : روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال في قوله تعالى :
أنزل من السماء ماء .. إلخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه ثم قال : وهذا قولا لا يصح والله تعالى أعلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز قد تمسك به
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي وأهل ذلك الطريق وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام
العرب بغير داع إلى ذلك وإن صح ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فيقال فيه : إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى :
كذلك يضرب الله الحق والباطل معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها . اهـ . ونحن نقول : إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه وحجة الإسلام
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك
للذين استجابوا لربهم بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس
الحسنى المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء
والذين لم يستجيبوا له تعالى وبقوا
[ ص: 139 ] في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية
لو أن لهم ما في الأرض الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها
ومثله معه لافتدوا به مما ينالهم من الحجاب والحرمان
أولئك لهم سوء الحساب لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس
ومأواهم جهنم الحرمان
وبئس المهاد جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية