صفحة جزء
وإن لكم في الأنعام لعبرة أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور التجاوز من محل إلى آخر، وقال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نسقيكم استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل: نسقيكم مما في بطونه ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير بطونه للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.

ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وأياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول: جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه نسقيكم مما في بطونه وقال أبو الخطاب: سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس انتهى.

وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ: على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر:


تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي



وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه: منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم، وأيضا إن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن وما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه [ ص: 177 ] حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب: المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل: جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله:


فيها خطوط من سواد وبلق     كأنه في الجلد توليع البهق



وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب.

واعترض بأنه كيف جمع- نعم- وهي تخصيص بالإبل والأنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا.

وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.

وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه والحسن، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن عامر ونافع وأبو بكر وأهل المدينة (نسقيكم) بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أنه مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد:


سقى قومي بني مجد وأسقى     نميرا والقبائل من هلال



وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رجاء «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.

وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في بطونه وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.

من بين فرث ودم لبنا الفرث على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، و بين تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما.

وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول: اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبح دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده [ ص: 178 ] لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال: إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته:


حكم حارت البرية فيها     وحقيق بأنها تحتار



وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يعذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، (ومن) الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي متعلقة- بنسقيكم- (ومن) الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة- بنسقيكم- فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما (ولبنا) مفعول ثان- لنسقيكم- وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون (من بين) حالا من (لبنا) قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.

وجوز أن تكون (من) الأولى ابتدائية كالثانية فيكون (من بين) بدل اشتمال مما تقدم خالصا مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث سائغا للشاربين [ ص: 179 ] سهل المرور في حلقهم لدهنيته.

أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين».

وقرأت فرقة «سيغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا.

وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.

التالي السابق


الخدمات العلمية