وقوله تعالى:
فكلوا مما رزقكم الله مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته، والمعنى وإذا قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق الله تعالى حال كونه
حلالا طيبا وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها
واشكروا نعمت الله واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران.
والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وقد تمهدت مباديه، وأما بعد ما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى:
فأخذهم العذاب وهم ظالمون على الإخبار بذلك قبل الوقوع يأباه التصدي لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازا كثير.
وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=15466الواحدي قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اه. وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في
بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل
مكة حيث قال: إن رؤساء
مكة كلموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى:
فكلوا مما رزقكم الله إلخ ثم قال: والقول ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد:
إنما حرم عليكم الميتة إلخ يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم اه. وفي التفسير الخازني أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل
المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=17131مقاتل وبعض المفسرين، والمراد بالقرية
مكة وقد ضربها الله تعالى لأهل
المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو
بمكة وإنما أمر به وهو
بالمدينة فكان صلى الله تعالى عليه وسلم يبعث البعوث إلى
مكة يخوفهم بذلك وهو
بالمدينة، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم
بدر، والظاهر أن قوله تعالى:
ولقد جاءهم إلخ عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر إلى الفهم. نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيدا غاية البعد، وجعله للكفار
[ ص: 246 ] مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعد أيضا لكن دون ذلك. وادعى
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم، ونقل كون خطاب النهي لهم عن
العسكري، وكونه للكفار عن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري nindex.php?page=showalam&ids=13366وابن عطية والجمهور، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل
مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث إن أهل
مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك
إن كنتم إياه تعبدون تطيعون أو إن صح زعمكم إنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال: إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة، والكلام خارج مخرج التهييج.