ومن باب الإشارة في الآيات، أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله، فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى نفسه نفسا، فإنه كما ( كتب القصاص ) في قتلاكم
كتب على نفسه الرحمة في قتلاه، ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه - سبحانه - يقول: من أحبني قتلته، ومن قتلته فأنا ديته، ولكم في مقاصة الله - تعالى - إياكم بما ذكر حياة عظيمة، لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام؛ لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات، ووصية أهل الله تعالى - قدس الله تعالى أسرارهم - المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها ( الصيام ) ، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق، و ( الأيام المعدودة ) هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب، فاجعلها كلها أيام صومك، واجعل فطرك في عيد لقاء الله - تعالى -، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق: فمن حضر منكم ذلك الوقت
[ ص: 73 ] وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له وبه وفيه ومنه وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود،
أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام، فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه،
يريد الله بكم اليسر والوصول إلى مقام التوحيد والاقتدار بقدرته،
ولا يريد بكم العسر وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة،
ولتكملوا عدة المراتب ولتعظموا الله - تعالى - على هدايته لكم إلى مقام الجمع،
ولعلكم تشكرون بالاستقامة،
وإذا سألك عبادي المختصون بي المنقطعون إلي عن معرفتي،
فإني قريب منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق،
أجيب من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله، واستعداده
فليستجيبوا لي بتصفية استعدادهم، وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء، فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية، وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية، وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك، أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس، وهو الرفث إلى النساء، وعلله بقوله سبحانه:
هن لباس لكم وأنتم لباس لهن أي: لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري،
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة، فتاب عليكم وعفا عنكم،
فالآن أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء،
باشروهن بقدر الحاجة الضرورية،
وابتغوا بقوة هذه المباشرة
ما كتب الله لكم من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية،
وكلوا واشربوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه، وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها، ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق، حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى، فإن لكل حاضر سهما منها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة بخبر: "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع
nindex.php?page=showalam&ids=41حفصة nindex.php?page=showalam&ids=15953وزينب"، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب، ولا تأكلوا أموال معارفكم بينكم بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لتأكلوا الطائفة من أموال القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية
وأنتم تعلمون أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه
يسألونك عن الأهلة وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها
قل هي مواقيت للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل:
الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم، وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال، نفعنا الله - تعالى - بهم، وأفاض علينا من بركاتهم،
وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء، قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله
وليس البر الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء، كما صرح به
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير [ ص: 74 ] عنه - ويعدون فعلهم ذلك برا - فبين لهم أنه ليس ببر
ولكن البر من اتقى أي: بر من اتقى المحارم والشهوات، أو لكن ذا البر أو البار من اتقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول ( قل ) فلا بد من الجامع بينهما، فإما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب، بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني مقدر، إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع، فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع
عن الأهلة فقط، وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للاستطراد؛ حيث ذكر مواقيت الحج، والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب، وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى
وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم
ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله - سبحانه - : ( يسألونك ) والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
وأتوا البيوت من أبوابها إذ ليس في العدول بر، وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على
وليس البر إما لأنه في تأويل ( ولا تأتوا البيوت من ظهورها ) أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير وكثير بكسر باء ( البيوت ) حيثما وقع
واتقوا الله في تغيير أحكامه، كإتيان البيوت من أبوابها، والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته - تعالى - بعد العلم، بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم.
لعلكم تفلحون 189 أي: لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن من اتقى الله - تعالى - تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه، وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه.