البحث الأول في شرح مذاهب الناس في
حقيقة الإنسان، وظاهر كلام
الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله: أنا وأبطل ذلك الإمام بسبع عشرة حجة نقلية وعقلية، لكن للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانا وذبولا ونموا، والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره، وغير الباقي غير الباقي، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل: فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم.
ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة؛ فإن
جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة
دحية الكلبي، وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي. ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي؛ جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة علي، فاحذروا مثل ما حل بي، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول كان الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل: إن الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل: إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل: هو الدم الحال في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول، والمعول عليه عند المحققين قولان: الأول: أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان، والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال: هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال
ابن القيم في كتابه «الروح»: إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع.
[ ص: 156 ] الثاني: أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين؛ منهم الشيخ
أبو القاسم الراغب الأصفهاني وحجة الإسلام
أبو حامد الغزالي ومن
المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن
الشيعة الشيخ المفيد، ومن الكرامية جماعة، ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم، وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين
أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب
الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره،
وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها،
وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا، واستدل
الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال: إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال: هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى:
ونفخت فيه من روحي وقوله سبحانه:
وكلمته ألقاها إلى مريم فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656001«أنا النذير العريان».
ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=688786«إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن».
وفي رواية: «على صورته».
وقوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=856218«أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».
ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.