وقل لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم
الحق من ربكم خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا الذي أوحي إلي الحق و
من ربكم حال مؤكدة أو خبر بعد خبر، والأول أولى، والظاهر أن قوله تعالى:
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر من تمام القول المأمور به فالفاء
[ ص: 266 ] لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد؛ أي: عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى.
وجوز أن يكون
الحق مبتدأ خبره
من ربكم واختار
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هنا الأول، قال في الكشف: ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما؛ لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه:
وقل إلخ؛ أي: هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى: جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل؛ إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير، بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير. اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه، وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل: المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17131مقاتل، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك: هو التوحيد، وقال
الكرماني: الإسلام والقرآن.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي: المراد به التوفيق والخذلان؛ أي: قل: التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلي من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى، وجوز أن يكون قوله سبحانه:
فمن شاء فليؤمن إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به، فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر؛ أي: قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير؛ وهو ظاهر.
وذكر
الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول
كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل
المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها؛ لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا: لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار؛ وهو مذهب
الأشاعرة، وفي الإحياء لحجة الإسلام: فإن قلت: إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك
[ ص: 267 ] أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار، فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم، وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى.
وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وسنذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي: هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية عن فرقة أن فاعل «شاء» في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.
والحق أن الفاعل ضمير «من» والرواية عن الحبر أخرجها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الأسماء والصفات، فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان، ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله تعالى أعلم.
وقرأ
أبو السمال قعنب: «وقل الحق» بفتح اللام حيث وقع، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم: وذلك رديء في العربية، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه إتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا: «الحق» بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير: قل القول الحق و
من ربكم قيل: حال؛ أي: كائنا من ربكم، وقيل: صفة؛ أي: الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16748وعيسى الثقفي: «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما
إنا أعتدنا للظالمين للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي، وجعلها من جعل
فمن شاء إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر.
وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، ( وأعتدنا ) من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء، والمعنى واحد؛ أي: هيأنا لهم نارا عظيمة عجيبة
أحاط بهم سرادقها أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة، والإضافة قرينة، والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء، وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى
القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له بما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري في التاريخ
nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم وصححه،
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في البعث وآخرون عن
يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=698125«إن البحر هو من جهنم ثم تلا: نارا أحاط بهم سرادقها ».
والسرادق قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب: [ ص: 268 ] فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب؛ فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله: وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده، ثم إنه معرب سرايرده؛ أي: ستر الديوان، وقيل: سراطاق؛ أي: طاق الديوان، وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان وغيره: معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق: تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا
ويجمع كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال: سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر.
وإن يستغيثوا من العطش بقرينة قوله تعالى:
يغاثوا بماء كالمهل وقيل: مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع؛ فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي وآخرون عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري nindex.php?page=hadith&LINKID=664874عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كالمهل قال: كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه.
وقال غير واحد: هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل: ما أذيب من النحاس، وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فأذابه، فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار، لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه القيح والدم الأسود، وقيل: هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه:
يغاثوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول
بشر بن أبي حازم: غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يشوي الوجوه ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم، والجملة صفة ثانية لماء والأولى
كالمهل أو حال منه كما في البحر؛ لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء.
وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد؛ قاله
الخفاجي.
وذكر أن
أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي.
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال: إن ذلك ليس بالسهل؛ لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل: يجوز أن يكون مراد ذلك البعض، إلا أنه تسامح.
بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به
وساءت النار
مرتفقا أي: متكأ كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على
[ ص: 269 ] مرفق اليد. قال في
الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا؛ أي: متكئا على مرفق يده، وقيل: نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان، ونصبه على التمييز، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري:
وهذا لمشاكلة قوله تعالى:
وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله:
إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي: فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته؛ بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة، وفي معناه قول
ابن عطاء: المقر، وقول
العتبي: المجلس، وقيل موضع الترافق؛ أي: ساءت موضعا للترافق والتصاحب، وكأنه مراد
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد في تفسيره بالمجتمع، فإنكار
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري أن يكون له معنى مكابرة.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري: المعنى: ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء