صفحة جزء
فانطلقا الفاء فصيحة؛ أي: فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح، وفي رواية أنهما مرا بقرية حتى إذا لقيا غلاما يزعمون -كما قال البخاري- أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء، وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه فقتله أخرج البخاري في رواية أنه عليه السلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده.

وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين.

وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل: رضه بحجر، وقيل: ضربه برجله فقتله، وقيل: أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل: كان بالغا شابا، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج:


شفاها من الداء الذي قد أصابها غلام إذا هز القناة سقاها



وقوله:


تلق ذباب السيف عني فإنني     غلام إذا هوجيت لست بشاعر



وقيل: هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق، وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى:قال أي موسى عليه السلام أقتلت نفسا زكية أي: طاهرة من الذنوب؛ فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب.

[ ص: 339 ] وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة، وهو تفسير باللازم، ومن قال كان بالغا قال: وصفه عليه السلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشئ من حسن الظن، واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى: بغير نفس أي: بغير حق قصاص لك عليها، وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة.

وقال السبكي: قبل أحد ثم نسخ، والجار والمجرور - قال أبو البقاء - متعلق ب «قتلت» كأنه قيل؛ أي: قتلت نفسا بلا حق، وجوز أن يتعلق بمحذوف؛ أي: قتلا بغير نفس، وأن يكون في موضع الحال؛ أي: قتلها ظالما لها أو مظلومة، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو: «زاكية» بتخفيف الياء وألف بعد الزاي، و «زكية» بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك؛ لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل - كما قال أبو حيان - يدل على المبالغة، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت.

وتعقب بأنه فرق غير ظاهر؛ لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى: لأهب لك غلاما زكيا فمن أين جاءت هذه الدلالة، ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكى اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه، وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة، وقد فهمه من كلام العرب فإنه إمام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار «زاكية» بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواترا عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا على ما قيل لا ينافي كون «زكية» بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم، وأيا ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه السلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السلام ذعرة منكرة قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس.

لقد جئت شيئا نكرا منكرا جدا، قال الإمام: المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر، وقيل بالعكس، وقال الراغب: المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، ولهذه الأبلغية قال بعضهم: المراد شيئا أنكر من الأول، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال: إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة، وقال في الكشف: الظاهر أبلغية النكر إما بحسب اللفظ فظاهر؛ ألا ترى كيف فسر الشاعر؛ أي في قوله:

[ ص: 340 ]

لقد لقي الأقران مني نكرا     داهية دهياء إدا إمرا



النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا، وقول من قال: إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكي على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقي، وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى، وروي القول بالأبلغية عن قتادة، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام حين قال للخضر عليه السلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبدا، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل: إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح، والاعتراض عليه أدخل وأحق؛ فكان الاعتراض جديرا بأن يجعل عمدة الكلام، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه.

وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض؛ إذ لو مضى زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للأمور العادية اطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء ل «إذا الشرطية» وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفا، وجعل الخرق جزاء.

وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين، والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقديرا لا يصلح للجزائية.

واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح؛ فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق.

وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى: خرقها وكذلك قوله سبحانه: فقتله لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية، وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر؛ فإنه لا يخلو عن شيء.

وقال مير بادشاه في الرد على ذلك: إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السلام ثانيا بعد ما سلف منه من الكلام وكونه عليه السلام مرسلا منه تعالى للتعلم، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد، ولعل الحق أن يقال: إن التقدير وإن جاز [ ص: 341 ] خلاف الظاهر جدا، وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء، وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول: كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السلام ظاهرا، ومن الأمثال العامية: لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا، وإذا سلم له أن يقول: إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل، فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل؛ فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم، والأمر في هذا سهل كما لا يخفى.

وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير: إن صدور الخوارق عن الخضر عليه السلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السلام ولله تعالى در شأن التنزيل، وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها؛ فإن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا، وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي، وذلك لا يقتضي جعله كذلك. انتهى.

وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصودا إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه.

وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس، وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة؛ إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره، وإنكار ذلك مكابرة، فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع؛ وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع، وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور؛ وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا، وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك، وقد رجح بذلك على ما تقدم، واستأنس له أيضا بأن مساق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمئت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سبق الكلام من أوله لشرح حاله، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق [ ص: 342 ] أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم، والله تعالى أعلم. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم: «نكرا» بضمتين حيث كان منصوبا.

تم الجزء الخامس عشر، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر، وأوله: (قال ألم أقل لك).

التالي السابق


الخدمات العلمية