ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة
إن الذين كفروا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض، إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى، وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر، وأظهروا الإسلام، فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار، كما يشير إليه قوله تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والناس أصله عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه والجمهور أناس، وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفا، فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان، وإنس وأناسي، ونقصه وإتمامه جائزان، إذا نكر، فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه، ومن عرف خص بالبلاء، ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله:
إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه، لأنه مدني بالطبع، ومن هنا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر، قال تعالى:
آنس من جانب الطور نارا وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب
السكاكي إلى أنه اسم تام، وعينه واو من نوس، إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس، فوزنه فعل، وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره، كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب، لقوله تعالى في
آدم عليه السلام:
فنسي ولم نجد له عزما وهذا مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فوزنه حينئذ فلع، ولا يستعمل في الغالب إلا في بني
آدم ، وحكى
ابن خالويه عن ناس من
العرب: أناس من الجن، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان : وهو مجاز، وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا: إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن
سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي، فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة، وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها
عبد الله بن أبي، وأشياعه، وجوز
ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل، باعتبار حال من أحواله، كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا، وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل: إن التخصيص هو الأنسب، لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة، وبعض النكرة نكرة، فناسب من الموصوفة للطباق، والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب
[ ص: 144 ] ورد قوله تعالى:
من المؤمنين رجال ومنهم الذين يؤذون النبي لأنه أريد في الأول الجنس وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين، ثم الكافرين، ثم عقب بالمنافقين، فصار نظيرا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن، وكافر، ومنافق - تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس - فائدة، ولك أن تحمله على معنى: من يختفي من المنافقين معلوم لنا، ولولا أن الستر من الكرم فضحته، فيكون مفيدا أيضا، وملوحا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية، فيتعجب منها، أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم، أو إنهم من الناس لا من الجن، إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون، والمعنى أنهم يعدون مسلمين، أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف، ولكل ساقطة لاقطة، واختار
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان هنا أن تكون (من) موصولة، مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره، ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم، وإن
ومن الناس الآية، وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه، لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم، المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون لا مطلق المنافقين، ولأن اختصاصهم بخلط الخداع، والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا، فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة، ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى: (يقول) (وآمنا) مراعاة للفظ (من) ومعناها، ولو راعى الأول فقط لقال: آمنت، أو الثاني فقط لقال: يقولون، ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا، إذ هو في الخارج قبل المعنى، والواحد قبل الجمع، ولو عكس جاز، وزعم
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد، ويرده قول الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينون إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على الله، واليوم الآخر، مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان، إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه، ورسله، وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدإ والمعاد، وما طريقه العقل والسمع، ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة، أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة، لأن القوم في المشهور كانوا يهودا، وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما، ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا، كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، والقرآن، أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه، ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا، لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيف وهو مخادعة وتلبيس، وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدإ والمعاد، واعترفوا أنهم كانوا في ضلال، خصوا إيمانهم بذلك، لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك وأيضا، ترك
[ ص: 145 ] الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات، فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم، وحمل:
بالله وباليوم الآخر على القسم منهم على الإيمان سمج بالله، وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير، ما آمنوا وما هم بمؤمنين، فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان، وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي، واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى، أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له، وسمي آخرا، لأنه آخر الأوقات المحدودة، والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازا، ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني، لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم لغة، هو الثاني، لمحدوديته، وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفا من طلوع الشمس إلى غروبها، وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار، والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه:
وما هم بمؤمنين حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه، لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم، وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا، وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص، وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم، قيل في جوابهم:
وما هم بمؤمنين على قصر الإفراد، والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم، وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه، إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا، وأما على أن من أقر بلسانه، وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن، فلا لوجود المنافي في المنافق هنا، لأنه من المختوم على قلبه، أو لأن الله تعالى كذبه، وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني، كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين، ولا يكفي عنده نحو: آمنت بالله وباليوم الآخر، لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد، والاسم الخاص به تعالى، واسم
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه، فليتدبر.