صفحة جزء
ومن باب الإشارة في الآيات ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل قيل ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه ، وسئل الجنيد متى أتاه ذلك ؟ فقال : حين لا متى قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم فيه إشارة إلى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله اهـ .

وقال حمدون القصار : استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون بالمسجون قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال ابن عطاء : كان ذلك لسلامة قلب إبراهيم عليه السلام وخلوه من الالتفات إلى الأسباب وصحة [ ص: 109 ] توكله على الله تعالى ، ولذا قال عليه السلام حين قال له جبريل عليه السلام : ألك حاجة ؟ أما إليك فلا ففهمناها سليمان فيه إشارة إلى أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا تعلق له بالصغر والكبر فكم من صغير أفضل من كبير بكثير وكلا آتينا حكما قيل معرفة بأحكام الربوبية وعلما معرفة بأحكام العبودية وسخرنا مع داود الجبال يسبحن قيل كان عليه السلام يخلو في الكهوف لذكره تعالى وتسبيحه فيشاركه في ذلك الجبال ويسبحن معه ، وذكر بعضهم أن الجبال لكونها خالية عن صنع الخلق حالية بأنوار قدرة الحق يحب العاشقون الخلوة فيها ، ولذا تحنث صلى الله عليه وسلم في غار حراء .

واختار كثير من الصالحين الانقطاع للعبادة فيها وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ذكر أنه عليه السلام قال ذلك حين قصدت دودة قلبه ودودة لسانه فخاف أن يشغل موضع فكره وموضع ذكره ، وقال جعفر : كان ذلك منه عليه السلام استدعاء للجواب من الحق سبحانه ليسكن إليه ولم يكن شكوى وكيف يشكو المحب حبيبه وكل ما فعل المحبوب محبوب وقد حفظ عليه السلام آداب الخطاب وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه قيل إن ذلك رشحة من دن خمر الدلال ، وذكروا أن مقام الدل دون مقام العبودية المحضة لعدم فناء الإرادة فيه ولذا نادى عليه السلام لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أي حيث اختلج في سري أن أريد غيره ما أردت وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين قيل إنه عليه السلام أراد ولدا يصلح لأن يكون محلا لإفشاء الأسرار الإلهية إليه فإن العارف متى كان فردا غير واجد من يفشي إليه السر ضاق ذرعه ويدعوننا رغبا ورهبا قيل أي رغبة فينا ورهبة عما سوانا أو رغبة في لقائنا ورهبة من الاحتجاب عنا وكانوا لنا خاشعين .

قال أبو يزيد : الخشوع خمود القلب عن الدعاوى ، وقيل الفناء تحت أذيال العظمة ورداء الكبرياء وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع الخلق وهو صلى الله عليه وسلم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع في أنه عليه الصلاة والسلام سبب لوجودهم بل قالوا : إن العالم كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم ، وقد صرح بذلك الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره في قوله وقد تقدم غير مرة :


طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا

وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة والسلام وجه الانقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه فتأمل . هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من رحمته الحظ الوافر وأن ييسر لنا أمور الدنيا والآخرة بلطفه المتواتر .

التالي السابق


الخدمات العلمية