صفحة جزء
ألم تر هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي، كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب؛ بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه، وأنه ينبغي أن يتعجب منه، ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأى؛ قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الإبصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار؛ لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده، وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء؛ ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: إلى الذين كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه، لكن لما استعير لمعنى ( ألم تنظر )؛ عدي تعديته بإلى، وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير، فلا يقال رأيت إلى كذا، انتهى، وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه، وقل من نبه عليه؛ كقول امرئ القيس:

ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا ولم تتطيب،

والمراد بالموصول أهل قرية، يقال لها: داوردان قرب واسط خرجوا من ديارهم فارين من الطاعون، أو من الجهاد؛ حيث دعوا إليه وهم ألوف حذر الموت وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر؛ بناء على أنه لا يقال عشرة ألوف ولا تسعة ألوف وهكذا، وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه: أنهم أربعة آلاف، ومقاتل، والكلبي: إنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح: إنهم تسعة آلاف، وأبي رءوف: إنهم عشرة آلاف، لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا؛ فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكي ذلك عن السدي، وروي عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ أنهم أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح: إنهم سبعون ألفا، ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة، وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد: أن المراد خرجوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض، فجعله جمع [ ص: 161 ] آلف مثل قاعد وقعود، وشاهد وشهود، وهو خلاف الظاهر وليس فيه كثير اعتبار؛ إذ ورود الموت دفعة كما ينبئ عنه قوله تعالى: فقال لهم الله موتوا على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد إلفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره، وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل: هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه، وأسرع زمان وأوحاه، بأمر مطاع، لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي: أن المنادي ملكان، وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثم أحياهم عطف على مقدر يستدعيه المقام؛ أي: فماتوا ثم أحياهم، قيل: وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره؛ لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفا على ( قال ) لما أنه عبارة عن الإماتة، والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم، فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون، وقيل: شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ وقال وهب: إنه شموئيل، وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه، فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام أن الله تعالى يأمركم أن تجتمعي، فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض، فصارت أجسادا من عظام، لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام أن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما، فاكتست لحما، ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أن الله تعالى يأمرك تقومي، فبعثوا أحياء، يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، والروايات في هذا الباب كثيرة

والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء، كما في الآخرة، ويمكن أن يقال أنهم رأوا ما يراه الموتى، إلا أنهم أنسوه بعد العودة، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء، وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لا يذوقون فيها الموت الآية؛ لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال _ كما قال مجاهد _ وإنما هو موت عقوبة، فكأنه ليس بموت، وأيضا هو من خوارق العادات، فلا يرد نقضا، ومن الناس من قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الروح عن الجسد؛ بحيث يلحقه التغير والفساد، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا، ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما، لكنه لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت، أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء

وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات، فقال: إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا، وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل، يحدث تفرق الأجزاء منها، كما يحدث للمجذومين والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت؛ لكونها عرية عن الإحساس والإدراك، وهو مذهب تحكم الضرورة برده _ عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله _ إن الله لذو فضل على الناس جميعا؛ أما أولئك؛ فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة، وأما الذين سمعوا؛ فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم ولكن أكثر الناس لا يشكرون استدراك مما تضمنه ما قبله، والتقدير: فيجب عليهم أن يشكروا فضله، ولكن إلخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع، ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام [ ص: 162 ] التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى؛ عقب ذلك بهذه القصة العجيبة؛ تنبيها على عظيم قدرته، وأنه القادر على الإحياء والبعث؛ للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد، والوفاء بالحقوق، والصبر على المشاق،

وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ؛ ذكر هذه القصة؛ لأنها من عظيم آياته، وبدائع قدرته، وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد، والتعرض للشهادة، والحث على التوكل، والاستسلام للقضاء؛ تمهيدا لقوله تعالى:

التالي السابق


الخدمات العلمية