وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون اختلف في هذه الجملة، فقيل: معطوفة على (يكذبون)، لأنه أقرب، وليفيد تسببه للعذاب أيضا، وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب، ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا، إذ المعنى في قولهم :
إنما نحن مصلحون إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح، وهو عناد وإصرار على الفساد، والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة يعود إلى (ما)، فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وإلا يكون التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ، وهو غير منتظم، وكأن من يجعل (ما) مصدرية يجعل الوصل (بكان) حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية، نعم يرد أن قوله تعالى :
إنما نحن مصلحون كذب، فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب، وعطف التفسير مما يأباه الذوق، والاستعمال، ومن هنا قيل : بأن هذا العطف وجيه على قراءة: (يكذبون) بالتشديد، على أحد احتمالاته، ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب، والتكذيب، وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض : أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان، لشهرة الاتصاف بها عند السامع، أو لسبق الذكر صريحا، أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل، لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل : معطوفة على (يقول)، لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة، ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم، وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا، ودلالتها على لحوق العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم، فما ظنك بسائرها، ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه، فلا تغاير سابقها، ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل، على أن تخلل البيان والاستئناف، وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان، فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر، أنها معطوفة على قوله :
ومن الناس من يقول لبيان حالهم في ادعاء الإيمان، وكذبهم فيه أولا، ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم، ورؤية القبيح حسنا، والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال، وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية، فهو أرجح بحسب السياق، ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه: إنه ليس مما يعتد به، وإن توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني، وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين، وبيان أحوالهم، إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر
[ ص: 153 ] التي فيها إليهم، كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام، كلام خارج عن دائرة الإنصاف، كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب، والاعتساف، فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم، وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف، فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها، وما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان رضي الله تعالى عنه من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين، كما يشعر به الظاهر، بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين، وإن نزلت فيهم، إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم، ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم، أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك، ولم يقطع به، فنصحهم، فأجابوه بما أجابوه، أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم، أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد، فلا يقبله منهم لأمر ما، فينقلب واعظا لهم، قائلا: لا تفسدوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة، ونقيضه الصلاح، والمعنى: لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد، وهو هنا الكفر، كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو المعاصي كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية، أو النفاق الذي صافوا به الكفار، فأطلعوهم على أسرار المؤمنين، فإن كل ذلك يؤدي ولو بالوسائط إلى خراب الأرض، وقلة الخير، ونزع البركة، وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد، فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر، يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة، ومشغولية الناس بعضهم ببعض، فيهلك الحرث والنسل، ولعل النهي عن ذلك لخور، أو تأمل في العاقبة، وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه، مما تميل إليه الحذاق، على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال، من وقوع مكروه بالمؤمنين،
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف، والمراد من الأرض جنسها، أو
المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء، إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد، وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد، بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها، وخولكم بنعمها.
وأقبح خلق الله من بات عاصيا لمن بات في نعمائه يتقلب
(وإنما) للحصر كما جرى عليه بعض النحويين، وأهل الأصول، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق، ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من (ما) النافية، دخل عليها (إن) التي للإثبات، فأفادت الحصر قولا ركيكا، صادر عن غير عارف بالنحو، ومعنى
إنما نحن مصلحون مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيئا من وجوه الفساد، وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب، وهذا إما ناشئ عن جهل مركب، فاعتقدوا الفساد صلاحا، فأصروا، واستكبروا استكبارا.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ
هشام، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي (قيل) بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة، (وقول): بإخلاص الضم، وسكون الواو لغة لهذيل، ولم يقرأ بها.