حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى:
إذا هم يجأرون وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع
[ ص: 56 ] المستفاد من قوله سبحانه:
وما يتضرعون إذ له أن يقول: الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات، وقيل: ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى:
إذا هم يجأرون وقوله سبحانه:
وما يتضرعون أيضا، واستكان استفعل من الكون، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا، وقال
أبو العباس أحمد بن فارس: سئلت عن ذلك في
بغداد لما دخلتها زمن
الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني: هو مشتق من قول
العرب: كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين، وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله:
أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
واعترض بأن الإشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد بكونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع
حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد من عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13980الجبائي ، ( وحتى ) مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل: هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد
إذا هم فيه أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال
مبلسون متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى:
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون [الروم: 12]
لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [الزخرف: 75] وقيل: هذا الباب استيلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير. وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم
بدر، وروت
الإمامية- وهم بيت الكذب-
عن
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة
، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا، والوجه في الآية عندي ما تقدم، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع.