ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا نبيا ينذر أهلها؛ فتخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك، وقصرنا الأمر عليك؛ إجلالا لك وتعظيما
فلا تطع الكافرين فيما يريدونك عليه، وهو تهييج له - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين.
وجاهدهم به أي بالقرآن، كما أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة
جهادا كبيرا فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كما وكيفا، وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه - عليه الصلاة والسلام - نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل: بعثناك نذيرا لجميع القرى، وفضلناك وعظمناك، ولم نبعث في كل قرية نذيرا، فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، وفي الكشف لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا [ ص: 33 ] وذنب بدلائل القدرة والنعمة والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد، وأنهم يغمطون مثل هذه النعم، ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه، وجعلوا كالأنعام وأضل، وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى.
قيل:
ولو شئنا على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه، فعليك بالمجاهدة والمصابرة، ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة، وبولغ فيه فجعل حرصه - صلى الله عليه وسلم - على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم، وقيل: فلا تطعهم، ومدار السورة - على ما ذكره
الطيبي - على كونه - صلى الله تعالى عليه وسلم - مبعوثا على الناس كافة، ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولهذا جعل براعة استهلالها
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا .
والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى: أرأيت إلى آخر الآيات، وفيها من التنويه بشأنه - عليه الصلاة والسلام - ما فيها، وليست مسوقة للتأديب كما وهم.
وقيل: هي متعلقة بما عند، على معنى: ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم، كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا نفعل ما هو الأنفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع إلخ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه.
هذا، وجوز أن يكون ضمير ( به ) عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي، ولعل الباء حينئذ للملابسة، والمعنى: وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم، كأنه قيل: وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمداراة كما في قوله تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلا، وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير، وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عز وجل:
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه - صلى الله تعالى عليه وسلم - نذير كافة القرى؛ لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - تلك المجاهدات كلها، فكبر - من أجل ذلك - جهاده وعظم، فقيل له - عليه الصلاة والسلام -: وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة، وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة، فإنه بين بنفسه، وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية، وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان أن يكون الضمير للسيف.
وأنت تعلم أن السورة مكية،
ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف ، ومع هذا لا يخفى ما فيه، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة، وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم.