[ ص: 64 ] لله ما في السماوات وما في الأرض من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها
وإن تبدوا أي تظهروا للناس
ما في أنفسكم أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة
أو تخفوه بأن لا تظهروه.
يحاسبكم به الله أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=654864 " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى:
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت
سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=657187 " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تبدوا ما في أنفسكم الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "، فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمن الرسول الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الخ، وصح مثل ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله تعالى وجهه
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال] أحسبه
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ.
واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني ومن هنا قال
الطبرسي وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=657187«كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من
[ ص: 65 ] الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره.
وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى:
فاعفوا واصفحوا كأنه قيل: كيف يحمل
ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله عليه وسلم
أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة، والسلام وقال:
" أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها " ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى، أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك يحاسبكم به الله وأيد هذا بما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور، nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير، nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و
ما في أنفسكم على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى
يحاسبكم يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر، فتدبر.
وارجع إلى ذهنك فلا أخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى:
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله فلما قيل: إن المعلق بما في أنفسهم هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء [إذ] ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية.
فيغفر بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله
لمن يشاء أن يغفر له من عباده
ويعذب بعدله.
من يشاء أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم nindex.php?page=showalam&ids=17379ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار أن وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك:
والفعل من بعد الجزا إن يقترن بالفاء أو الواو بتثليث قمن
[ ص: 66 ] وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود يغفر ويعذب بالجزم بغير فاء، ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر، وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من
يحاسبكم بدل البعض من الكل أو الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه ب (يحاسبكم) ومطلق الحساب جامع لهما فإن اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل، وقيل: إن أريد ب (يحاسبكم) معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال كأحب زيدا علمه، وإن أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض ك ضربت زيدا رأسه، وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال، قال: ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه
nindex.php?page=showalam&ids=14158الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد خير نار عندها خير موقد
فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان؛ إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه، أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري على عادته في الطعن في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتا، ونقل إدغام الراء في اللام عن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له، وممن روى ذلك عنه
أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء وأبو جعفر الرؤاسي، ولسان
العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن
العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.
والله على كل شيء قدير [ 284 ] تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر.