من جاء بالحسنة فله بمقابلتها
خير منها ذاتا ووصفا وقدرا على ما قيل، وجوز كون (خير) واحد الخيور وليس بأفعل التفضيل (ومن) سببية أي فله خير بسبب فعلها وهو خلاف الظاهر، وقد تقدم الكلام في ذلك
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حال المسيئين بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفي جمع السيئات دون الحسنة قيل إشارة إلى قلة المحسنين وكثرة المسيئين، وقد يقال: إنه إشارة إلى أن ضم السيئة إلى السيئة لا يزيد جزاءها بل جزاؤها إذا انفردت مثل جزائها إذا انضم إليها غيرها وأن عدم ضم الحسنة إلى الحسنة لا يؤثر في مقابلتها بما هو خير منها، ولعل قلة المحسنين تفهم من عدم اعتبار الجمعية في (من) في قوله تعالى:
من جاء بالحسنة فله خير منها وكثرة المسيئين تفهم من اعتبار الجمعية فيها إذ الموصول قائم مقام ضميرها في قوله تعالى:
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة، وهذا لطف منه عز وجل إذ ضاعف الحسنة ولم يرض بزيادة جزاء السيئة مقدار ذرة، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار المضاف فإن أعمالهم أنفسها تظهر يوم القيامة في صورة ما يعذبون به، ولا يخفى ما فيه، وفي ذكر عملوا ثانيا دون جاؤوا إشارة إلى أن ما يجزون عليه ما كان عن قصد لأن العمل يخصه كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب، وفي التفسير الكبير للإمام
nindex.php?page=showalam&ids=11943الرازي في أثناء الكلام على تفسير قوله تعالى:
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم [الكهف
: 9] الآية أن في التعبير بـ جاء دون عمل بأن يقال: من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة إلخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقاب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل، ويؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد، ولا يخلو عن حسن، ولعل نكتة التعبير بـ عملوا ثانيا تتأتى عليه أيضا.
وفي قوله تعالى:
فلا يجزى إلخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب، ولله تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره، واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد، وأين هو من كفر ساعة؟ وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للأفعال، وقصارى ما نعلم أن الله تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز وجل أنه مماثل له، وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه، وكذا يقال في الذنوب التي شرع الله تعالى لها حدودا في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المحصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها
[ ص: 128 ] فإنا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة، وأجاب الإمام عن مسألة الكفر وعذاب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازما أنه لو عاش إلى الأبد لبقي على ذلك الكفر، وقيل: في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسب تفاوت عظمة المعصي فكلما كان المعصي أعظم كان الجزاء أعظم، فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهى عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناه، وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلا منه تعالى شأنه لمكان الإيمان، وقيل أيضا: إن كل كفر قولا كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص إليه عز وجل المنافي لوجوب الوجود المقتضي لوجوده سبحانه أزلا وأبدا وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزما نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر.