اتل ما أوحي إليك من الكتاب أي دم على تلاوة ذلك تقربا إلى الله تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق
وأقم الصلاة أي داوم على إقامتها. وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بإقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى:
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كأنه قيل: وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به إن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [النحل: 90] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل. ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15097والكلبي nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء. ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال: إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عز من قائل:
وأقم الصلاة لذكري [طه: 14] ومن كان ذاكرا لله عز وجل منعه ذلك عن
[ ص: 164 ] الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره، وهو كما ترى، وقيل: إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك، وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الإتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنه لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله تعالى كما ضيعتني، وكأن مراد القائل: إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا.
وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض
الإمامية عن
أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه،
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في شعب الإيمان عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=933132من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له». وفي لفظ: «لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعدا» وأخرجه بهذا اللفظ
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني nindex.php?page=showalam&ids=13508وابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إن فلانا يطيل الصلاة فقال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من الله تعالى وكرما، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي، ويشير إلى هذا ما أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وابن حيان nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=690247«جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول».
وأصرح منه فيما ذكرنا ما روي
أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال عليه الصلاة والسلام: إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب
، إلا أن
ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث. ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحة، وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن، وقال
ابن بحر: إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس أنه كان يقرأ: «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر»
ولذكر الله أكبر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر وأبو قرة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد وعطية: المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه، وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ:
فاذكروني أذكركم [البقرة: 152].
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
أبي مالك أنه قال: ذكر الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت، وجوز
[ ص: 165 ] أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء، وقيل: المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه.
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في الزهد
nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل قال: «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه
ولذكر الله أكبر
. وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من إعطاء الدنانير والدراهم قالوا: وما هو يا
أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله تعالى
ولذكر الله أكبر »
. وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟
قال: أما تقرأ القرآن؟
ولذكر الله أكبر لا شيء أفضل من ذكر الله، ونسب في البحر إلى
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء. وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما، وجاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه.
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم في الكنى
nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في شعب الإيمان عن
عنترة قال: قلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة.
وقيل: المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى:
فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة: 9] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات، وقيل: المعنى ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة، (فذكر على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في الله أكبر
والله يعلم ما تصنعون من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان: يعلم ما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة.
لك الحمد يا ألله على ما أنعمت علينا بإتمام الجزء العشرين من تفسير روح المعاني للعلامة
الألوسي ووفقتنا لذلك نسألك أن تيسر لنا ما بقي منه بعونك وحولك ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي والعشرون أوله قوله تعالى:
ولا تجادلوا