صفحة جزء
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به أي باستحقاقه الإشراك، أو بشركته له تعالى في استحقاق العبادة، والجار متعلق بقوله تعالى: علم ، (وما) مفعول ( تشرك ) كما اختاره ابن الحاجب، ثم قال: ولو جعل ( تشرك ) بمعنى تكفر، وجعلت (ما) نكرة، أو بمعنى الذي بمعنى كفرا، أو الكفر، وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا، والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف، أي: وإن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته، أو بحقيته علم فلا تطعهما في ذلك، والمراد استمرار نفي العلم لا نفي استمراره، فلا يكون الإشراك إلا تقليدا. وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك، أي لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد عز وجل الأصنام كقوله سبحانه: ما يدعون من دونه من شيء [العنكبوت: 42]، وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وذلك أن العلم تابع للمعلوم، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا، ونقل عن ابن المنير أنه عليه من باب:


علي لاحب لا يهتدى بمناره

أي ما ليس بإله، فيكون لك علم بإلهيته، وفي الكشف: أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كلاشيء، ثم بولغ حتى ما لا يصح أن يتعلق به علم، والمعدوم يصح أن يعلم، ويصح أن يقال إنه شيء، فأدخل في سلك المجهول مطلقا، وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده، وهذا تقرير حسن، وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب:


ولا ترى الضب بها ينجحر

اهـ، فافهم، ولا تغفل، وصاحبهما في الدنيا معروفا أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم والمروءة، كإطعامهما، وإكسائهما وعدم جفائهما، وانتهارهما، وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا، وذكر ( في الدنيا ) لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة انصرامها، وقيل: للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية.

وقيل: ذكره لمقابلته بقوله تعالى: «ثم إلي مرجعكم»، واتبع سبيل من أناب أي رجع ( إلي ) بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، وحاصله: اتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما، ثم إلي مرجعكم أي رجوعك ورجوعهما، وزاد بعضهما من أناب، وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة،فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص أخرج أبو يعلى، والطبراني ، وابن مردويه، وابن عساكر ، عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية وإن جاهداك الآية، كنت رجلا برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا، أو لا آكل، ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك، قلت: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا [ ص: 88 ] ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية، وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى: ووصينا الإنسان الآية، نزلتا فيه، قيل: ولكون النزول فيه قيل: (من أناب) بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فإن إسلام سعد كان بسبب إسلامه.

وأخرج الواحدي، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنه يريد (بمن أناب) أبا بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا لأبي بكر: آمنت، وصدقت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: نعم، فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فآمنوا، وصدقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: واتبع سبيل من أناب إلي يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وابن جريج يقول كما أخرج عنه ابن المنذر (من أناب) محمد عليه الصلاة والسلام، وغير واحد يقول: هو صلى الله تعالى عليه وسلم، والمؤمنون، والظاهر هو العموم.

التالي السابق


الخدمات العلمية