ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها مقدر بقول معطوف على مقدر قبل قوله تعالى:
ربنا أبصرنا إلخ، وهو جواب لقولهم
فارجعنا يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء اختيارهم، وأنهم ممن لم يشإ الله تعالى إعطاؤهم الهدى، أي ونقول: لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها، أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح، وفسره بعضهم بنفس الإيمان، والعمل الصالح، والأول أولى، وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا، أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء، لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب، وما أخرناه إلى دار الجزاء،
ولكن حق القول مني أي ثبت وتحقق قولي، وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله:
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ،
فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ص: 84، 85]، وهو المعنى بقوله تعالى:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين كما يلوح به تقديم الجنة على الناس، فإنه في الخطاب لإبليس مقدم، وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة، وقيل: التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر.
ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه:
ولو شئنا لآتينا إلى ضمير الوحدة في قوله جل وعلا:
ولكن حق القول مني وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرد على اللعين، وقد وقع فيه القول، والإملاء مسندين إلى ضمير الوحدة، ليكون الكلام على طراز
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك [ص: 82، 83] في توحيد الضمير، وقد يقال: ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها «كل نفس» والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه ( من الجنة والناس ) أو يقال: إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعني به المشركون، فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا، أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما ارتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك، أو يقال: وحد الضمير في ( لأملأن ) لأن الإملاء لا تعدد فيه، فتوحيد الضمير أوفق به، ويقال نظير ذلك في
حق القول مني والإيتاء يتعدد بتعدد المؤتى، فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في ( شئنا ) فتدبر، ولا يلزم من قوله تعالى: ( أجمعين ) دخول جميع الجن والإنس فيها، وأما قوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها [مريم: 71]، فالورود فيه غير الدخول، وقد مر الكلام في ذلك، لأن ( أجمعين ) تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، فالمعنى: لأملأنها من ذينك النوعين جميعا، كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل، ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما، واستظهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف في ( الجنة والناس ) للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس، وحاصل الآية: لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه، لكن تحقق القول مني لأملأن جهنم إلخ، فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم، بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه، ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها، فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلال، لم نشأ إعطاءه لكم، وإنما أعطيناه الذين اختاروه من البررة، وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه:
إنما يؤمن بآياتنا الآية
[ ص: 129 ] فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم، لا تحقق القول، وإنما قيدت المشيئة بما مر من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها، لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب، فلا يكون عدمها منوطا بتحققها، وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغي، وإيثارهم له على الهدى، فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها بأن يقال: ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم [الأنفال: 23]، كذا قال بعض الأجلة.
وقد يقال: يجوز أن يراد بالمشيئة المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم، ويراد بالقول علم الله تعالى، فإنه وكذا كلمة الله سبحانه يطلق على ذلك، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب، وذكر منه قوله تعالى:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [يس: 7]، وقوله سبحانه:
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون [يونس: 96]، وحاصل المعنى: لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه، ولكن ثبت وتحقق علمي أزلا بتعذيب العصاة، فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا، ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة، إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم، ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة استلزام العلة للمعلول، فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة، وهو محال، وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة، فإما أن ينتفي العلم المذكور، وهو محال، لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري، فتعين انتفاء المشيئة لذلك، ويرجح هذا بالآخرة إلى أن سبب انتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم، لأن المشيئة تابعة للعلم، والعلم تابع للمعلوم في نفسه، فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة، فلا يشاؤهم جل جلاله، إلا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم، ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه، لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علما.
ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره، ويقال: إنه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جل وعلا قال لإبليس عليه اللعنة: إنه سبحانه يعذب أتباعه، ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم، فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول، ويرجع بالآخرة أيضا إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل، ومآل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم، ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالأعيان الثابتة، وأن الشقي شقي في نفسه، والسعيد سعيد في نفسه، وعلم الله تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما، وأن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جل شأنه، فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى على ما هما عليه في أنفسهما، فإذا تم هذا تم ذاك، وإلا فلا، والفاء في قوله تعالى: